مقالات الظهيرة

صهيب حامد يكتب… آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٣-٢٠)

جذور الحاكورة الدارفورية :

حسنا.. وكما أسلفنا فلقد نشأت سلطنة (كيرا) ضمن حدود جبل مرّة ، ويبدو أن ذلك قد بدأ قبل قرن أو يقل من إعتلاء أبا كوري (السلطان) سليمان سولونغدونقو العرش وهي حقبة لم تمتد فيها السلطنة لأكثر من الجبل نفسه والفضاء الجنوبي والغربي له.ولكن من المؤكد أن هذا الأخير هو الذي بدأت معه الروح الإمبريالي الإسلامي التبشيري في السلطنة وهو ما حدى به للتوسع رويدا رويدا شمالا وشرقا من منطقة النفوذ التقليدي للسلطنة.

 

لم يذيع صيت سلاطين الكيرا قبل (سولونغ) لما يبدو أنهم حصروا دورهم ضمن الدائرة الضيقة للفور كإثنية ولجبل مرّة كحيز مكاني ،

كما أنهم لم يمارسوا السلطة بمعناهاالزماني (Temporal) بل بالمعنى الروحي التبشيري وبذا إستطاعوا صنع التغيير الحضاري والثقافي للفور تمهيدا للمرحلة الكوزموبوليتاتية الإمبريالية التي إبتدرها السلطان سولونغ. فحسب ليفي ستراوس فإن الكاريزما السلطوية (الزعامة) لا تظهر بسبب أن هناك إحتياجاً لزعيم ضمن مجموعة ما.

 

إنما يظهر الزعماء لأن هناك رجال يستمتعون بالمكانة لذاتها ويشعرون بجاذبية قوية نحو المسؤولية ممن تأتي لهم أعباء الأمور العامة بمكافآتها الخاصة. إذن حملت كاريزما وطموحات (أبّا كوري) سليمان سولونغ الفور للتوسع شمالا وشرقا.

ولكن بعد التوسع الإمبريالي بدأ سولونغ والسلاطين من بعده الإحساس بأهمية دمج المجموعات الإثنية (غير الفوراوية) في مناصب الحكم في سبيل بناء الكيان الإمبريالي الذي يسع الفور وغيرهم. ومن هنا كما يشير (أوفاهي) بدأ التفكير الجاد لبناء نخبة سياسية لا يتأسس وجودها في الحكم على الحقوق الموروثة (heiriditary) بل على الوظائف التي يقومون بها (Titles).

 

لقد دشن ظهور سلالة الكيرا من نسل أحمد المعقور للتحول التدريجي للفور من بنية العقل التناسلي الذي أتاح لأبناء وأحفاد المعقور وراثة السلطة عبر أمهاتهم من فرع الكنجارا (خيرة التي تنطلق كيرا بلسان الفور) ، أقول دشن ذلك للتحول إلى بنية عقل برجوازي تجلّى لدى السلطان سولونغ.

 

إن طبقة البلاط المتنوعة أو التي أسميناها بالنخبة المختلطة التي ظهرت في الفونج بعد إعتلاء بادي الرابع العرش في ١٧٢٤م.

هي أهم سمات الانتقال أو النمو الجنيني لبنية الوعي البرجوازي والذي لا يتأتّى إلا بخلق التوافق الذي يدمج القوى الإجتماعية عبر ممثليهم في طبقة البلاط. فالسلطان يمارس سلطته عبر النخبة السياسية المتساوقة والمنسجمة فتزدهر البلاد ويتم ضمان الإستقرار.

إذن المهمة الأساسية لأبّا كوري (السلطان) لممارسة السلطة لدى (الكيرا) هي خلق التوافق ، وهو ما يؤكد أهميته ليفي ستراوس في (البنى الأولية للقرابة) مؤكّدا أن التوافق هو في الوقت ذاته أصل وحدّ القيادة..

التوافق هو الأساس النفسي للقيادة ولكنه يعبّر عن نفسه في الحياة اليومية ويقاس بلعبة الأخذ والعطاء التي يلعبها الزعيم وأتباعه.

أي نحن مرة أخرى أمام مفهوم التبادلية التي توفرها بنية أي عقل في سبيل بناء الإستقرار. إذن مع من يتبادل السلطان وما هو موضوع هذا التبادل!؟. يخلق السلطان التوافق بممارسة التبادلية مع النخبة السياسية التي تضمن للسلطان الولاء فيضمن لها هذا الأخير الإمتيازات التي تخلق لها المكانة وسط أتباعها بالسلطنة. وفي ذلك ل(الكيرا) إرث عظيم يمتاحون منه عبر حزام ممالك وسلطنات الحزام السوداني (Sudanic states).

يقول كوهين وبرنارد في دراستهما لأوضاع الأرض بمملكة (برونو) أن السيّد (Cima kura) يمنح حقوق مباشرة من السلطان (Sheho) لإمتلاك الأرض، و(سيما كورا) يعيش ويمارس مهامه في البلاط مع السلطان.

بينما يدير أرضه عبر الوكيل (سيما قانا) الذي يمارس هذه الوكالة مباشرة عبر وجوده الفعلي في الأرض. وهكذا كي ندرك أن (سيما قانا) هو علاقة (سيما كورا) بالمجتمعات

بينما (سيما كورا) هو علاقة السلطان بنفس هذه المجتمعات.

لذا فإن طبقة البلاط في برنو تتألف من السيما كورات الذين طالما تحسّنت علاقتهم بالناس ساد العدل وحكم السلطان، وكلما حدث العكس ساءت أحوال السلطنة مما سوف يضطر السلطان تغيير طاقم البلاط أو بعضه (التعديل الوزاري)!!.

 

إذن يمكننا القول بإطمئنان إننا بذلك وضعنا يدنا في جذر الحاكورة كظاهرة أنثروبولوجية على طول السودان الأوسط والغربي منذ نشوء ممالك صونغي وبرنو ومالي وغانا على طول نهر النيجر وغيره من الوديان النهرية هناك.

فيبدو ومبكرا قد أدرك سلاطين (كيرا) أهمية الأرض في الحكم والسيطرة على منوال نظرائهم في الحزام السوداني.

لذا فيؤرّخ أنه ومنذ السلطان موسى (١٦٧٠م-١٧٨٢م) أٌعلن أن الأرض في كافة أرجاء السلطنة هي حق حصري (لأبّا كوري) يمنحها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء. لقد ظهرت في بلاط (الكيرا) نخبة في غاية التنوع والأهمية خصوصا بعد أن قل إعتماد السلاطين على الباسينقا (Baasinga) وهم الأقرباء الملوكيين للسلطان من الفور (Royals) والذين كانت تتأسس نخبة البلاط منهم حصريا قبل الانتشار الإمبريالي بواسطة سليمان سولونغ.

إذ أن الطبيعة الإمبريالية الكوزموبوليتاتية للسلطنة إقتضت كما أوردنا أعلاه أهمية خلق التوافق. تباينت النخبة السياسية في بلاط السلطان كسلطة غاية في التمركز (Centralised autharity) من قادة عسكريين إلى فقرا وعلماء دين وتجّار وإداريين وقضاة وغيرهم. كانت الحواكير والألقاب التي يمنحها السلطان لنخبته هي الإمتياز المادي والمعنوي الذي يقوم مقام المكافأة.

ولكن مقابل ذلك يتبادل الممنوح مع السلطان أولا الولاء له إذ أن هذه الحواكير الممنوحة وفق إجراءات وطقوس مرعية ومعروفة عرضة للنزع في حال جاء سلطان جديد أو شك السلطان في ولاء الممنوحة له الحاكورة. كذلك يكون الشخص المحكورة له الأرض مسؤولا عن جمع زكاتها وضرائبها الأخرى (الإتاوات العرفية) وإرسالها لبيت الجباية.

إذن تراجعت حظوظ الفور ضمن التيار السياسي الرئيسي للحكم كلما إبتعد البلاط أكثر من جبل مرة وقد بلغ هذا الإغتراب أوجه بعد إنشأ محور (الفاشر-كوبي) على هامش الفضاء الشمالي الغربي لرقعة الفور ، كي ينحصر تأثير الفور فقط في إقليمين ضمن أقاليم السلطنة الأربعة وهما دار الديمنقاوي (الإقليم الجنوبي الغربي لجبل مرة) والذي يحكمه شخص يطلق عليه الفور لقب أبو ديما (Abbo diima) وهو متوارث ضم فرع المورقينقا في الفور وآخر من شغل هذا المنصب هو سيسي محمد أتيم والد السياسي السوداني المعروف د. التجاني السيسي.

ودار الأمنقاوي (الإقليم الجنوبي الشرقي لجبل مرة) والذي يحكمه شخص يطلق عليه أبو أما (Abbo Umo). أما الإقليمين المتبقيين هما دار تكناوي (دار الريح) والذي يحكمه (ابو تكناوي) وهو منصب متوارث ضمن سلالة من التنجر ، ودار دالي (دار صباح) ويحكمه شخص بالغ الأهمية بالبلاط يطلق عليه أب شيخ دالي (Ab sheikh daali) وهو أهم شخصية بعد السلطان في المملكة (الوزير) حيث يقع ضمن إختصاصه قيادة الجيش بالسلطنة ولا يقدم السلطان على أمر دون مشورته.

ومن أشهر هؤلاء أب شيخ محمد كرّا وآدم بوش الميدوبي وأحمد شطة وزير إبراهيم قرض ومحمود الدادنقاوي (Mahmud Al Dadingawi) آخر وزير في عهد السلطان على دينار. هناك دارات ذات وضع خاص لا تقع ضمن هذه الأقاليم الأربعة وهي دار فيا ودار مادي ودار كرني و دار كونير والتي على رأسها شراتي يتبعون للسلطان مباشرة.. نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى