مقالات الظهيرة

 لـواء رُكن ( م ) د. يـونس محمود محمد يكتب… غزّة معادلات القوّة وصراع الإرادات

*تـقديـم* :

بعد عامين كاملين من المواجهات الدامية التي تبدت فيهما وحشيّة الحرب وقسوتها بما خلّفته من مشاهد الموت والدمار في قطاع غزّة، خفّت الآن وتيرتها تهيئًا لسكوتها وفق منطوق مشروع الرئيس الأمريكي ترامب للتسوية، والذي وجد قبولًا من إسرائيل بإعتباره وحيها في الأذن الأمريكية لتحقيق ما عجزت عنه بكل ما أوتيت من قوةٍ وإسناد عملي من أمريكا وبعض دول حلف الناتو، وكذلك من أطراف أخرى في الملأ الإقليمي من حولها، حيثُ انها إستنفدت صبر العالم على غضّ الطرف والأرجاء وإختلاق المبرّرات في إستمرار طحن قطاع غزّة، وتنفيذ ما أعلنته حكومة نتيناهو من أهدافٍ صريحة في هزيمة حركة حماس، ونزع سلاحها، وإستعادة الأسرى، وحشدت كُل ما في جعبتها من أسباب القوّة العسكرية ممثّلة في جيش الدفاع الإسرائيلي بوظيفتيه العامل والإحتياط، وأجهزتها الأمنية والإستخباراتية، وكامل شبكة العلاقات الدولية الدبلوماسية، فضلًا عن آلة الإعلام الضخمة والتطبيقات العالمية المنحازة للموقف الإسرائيلي، الأمر الذي لم يتجاوز في تقديرات ضيوف حلقات النقاش والتحليل بضعُ أيّامٍ أو أسابيع أو نحوا من ذلك نسبةً لأعمار الحروب الإسرائيلية التي خاضتها في تاريخ صراعاتها في المنطقة العربية.

 

 

*حـمـاس* :

 

بالعودة للطرف الثاني في معادلة التسوية هو حركة حماس التي إختصم المتابعون فيما أقدمت عليه بعملياتها العسكرية الجريئة ضد عدوٍ متحفّز لا تنقصه الذرائع في إشعال الحروب وممارسة القتل والمباهاة بذلك، فضلًا عن ردّة الفعل ما يُمكن أن نصفه إستفزازًا لدرجة الإحراج أمام الشعب الإسرائيلي الذي نام على الأمان في أرجوحة الدعاية الصهيونية في وصف الجيش بأنّه الجيش الذي لا يُقهر، وأنَّ عقيدته العسكرية الثابتة هي نقل ميادين الحرب إلى عُمق العدو؛ لأن إسرائيل دولةٌ بلا عُمق ولذلك إجتهدت وزارة الدفاع الإسرائيلية في تثبيت الصورة التي بدأت في الإهتزاز أمام شاشات الإعلام العالمي، حيثُ غيّر أغلب المتابعين رأيهم وأنزلوا الصورة النمطية المعلّقة على جدار الذاكرة، ووضعوا أمامها صورةً لجيشٍ مُرهق بلا شرف، يُمارس السرقة واللصوصية لممتلكات الضحايا، يهرب من المواجهات، لا يميّز بين الأهداف العسكرية والأخرى المدنية المحمية بالقوانين الدولية والأخلاق.

وحماس تعرف هذه الخاصية من خلال المعايشة والإلتحام عن قُرب بهذا الكيان، والتمعّن في قراءة محتواه، وشاهدُ ذلك هو قول الشهيد يحيى السنوار أنّهم سيحشرون العدو أمام العالم ويضعونه في مواجهته، وسيعزلونه، وسيوقفون دوران عجلة التطبيع في المنطقة، وسيكشفون حال العدو، ويعرّونه من ألبسته المسرحية والأقنعة و المكياج.

قوّة حماس في مُقابل قوة الكيان أقل من أن ترسم لها جداول معادلة من فرط البون والمفارقة، ولكن ما لم يُحسب له الكيان هو ( *الإرادة* ) وهذه سمات لطيفة تكمٌن في عُمق الإنسان تمدّه باسباب الصمود، وترفعُ فيه قُدرات التحمّل، وتُفرغ عليه من الصبر ما يهوّن عليه المصائب.

وكذلك من أسباب قوّة حماس هو القُدرة على تطويع الأرض، ونحتها، وتثقيفها كما يثقفُ الصانع الرمح ليجعله حادًا نافذًا، فعمدت لإنشاء شبكة من الأنفاق ما يفوقُ طولها خمسمائة كيلومتر، متنوّعة ما بين الإستخدام الإداري والعملياتي والتمويهي فأصبحت متاهةً مخيفة كأنها بيوتُ الجن تُرهب الجنود الإسرائليين الذين إحتفلوا بالأمس التاسع من أكتوبر لمّا أتاهم أمر الإنسحاب حفاوةً بالسلامة والنجاة من مصيدة الموت في غزّة في مواجهة مقاتلي حماس المجهولين.

ومن أسباب قوّة حماس هو القُدرة الفائقة في تقدير الإحتياجات اللوجستية وتوفيرها وإدخارها وإستخدامها بحسابٍ دقيق حتى لا تنقطع، حيثُ ظلّت الأسلحة والذخائر والصواريخ والعبوات الناسفة والألغام وأسلاك الهندسة وأدوات التفجير، وأجهزة الإتصال المحمية، والطيران المسيّر على قلّته كلّها ظلّت حاضرةً في ساحة المواجهة حتى حين إعلان وقف الحرب مثل ما تمّ الإعلان عنه، وإن كان الكيان لا يعبأ بأي عهدٍ ولا وعد *﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾* إذْ ما يزال دخان القصف يظلّل سماء القطاع.

ومن أهم أسباب القوّة لدى حماس إن لم يكُن أهمها على الإطلاق هو ( *القيادة* ) وإلمامها الذكي بكل الحيثيات ودقّة إستيعابها لحيل وأساليب العدو، والتنبؤ بما سيقدُم عليه بشواهد نصب الكمائن وغالبًا لا تخيب من وقوع الجنود والآليات فيها كأنّها قدرٌ يُساقون إليه وهم مغمضون.

وبقيت سمات القيادة رغم التعاقب المفاجئ والمتسارع في الغياب بالإستشهاد من لدن الشيخ أحمد يس وإلى خليل الحيّة الذي يرصد ذات الهدف، ويمضي بذات النهج في مواجهة الإحتلال.

 

*الـتسـويـة* :

 

إنَّ مشروع التسوية الذي تحمّس له الرئيس الأمريكي ترامب ربما طمعًا في جائزة نوبل للسلام التي عصفت بها الأيادي وآتتها المعارضة الفنزويلية ( *ماريا ماتشادو* ) وهو ليس بعيدًا من تسييس الأمر والإنحياز للإمبريالية في مواجهة دعوات التحرّر في أمريكا الجنوبية خاصةً.

ولئن قضى مشروع التسوية الذي قبلت به حماس قضى بإخراجها أي حماس من شؤون إدارة القطاع ولو إلى حين، وكذلك الحديث عن سلاحها وضرورة نزعه تمامًا مع إبعاد حتى حركة فتح من أيّ دور في إدارة القطاع الذي سيسلّم للبريطاني المتصهين المسيحي المتشدّد توني بلير، وما ستسفر عنه الأيام القادمات في مستقبل القطاع.

فحماس أنجزت أكـثر مما وعدت ودفعت من دمها بسخاء إفتداءًا للأقصى وفلسطين، وجنت ثمرات هذا الإبتلاء بإنتزاع تأييد وإعتراف ١٧٤ دولة إعترافًا كاملًا ورفعت أعلامها في المقار الدبلوماسية.

وحماس انقذت القضية الفلسطينية الغارقة في لجج التطبيع ونسيان أمرها تماما ، واعادتها للحياة بقوة مسنودة بمنطق العالم الذي يفقهه ، وقد ساندها في ذلك كل من حزب الله وجماعة الحوثيين ، وقد ابلى كلاهما بلاء حسنا في احياء التضامن وروح المقاومة الشعبية .

وغيّرت حماس كل ركام الدعاية الصهيونية عن الجيش الإسرائيلي إلى أن ضحك عليه المشاهدون وأدمى أفئدة الصهاينة المتشدّدين.

وحماس وضعت إسرائيل في مقام العاجز عن الفعل بنفسه وأسلمت أمرها لأمريكا اعلانًا بولايتها التامّة عليها.

وبالضروة توقّف قطار التطبيع ولعلّه ليس من اللائق الآن الحديث في أيّ منبر عن التطبيع مع هذا الكيّان المجنون.

نعم هذه فقط مشاهدات من نافذة قطار الأحداث الذي يعبر مسار الشرق الأوسط ويطلُّ على سُرة الصراع، والمجال الحيوي الإهم ( *إسرائيل* ) بالنسبة لصنّاع القرار الإستراتيجي في الدول العُظمى وأهمّها الولايات المتحدة الأمريكية التي قدّر لها أن تكتب الصفحة الأخيرة لهذه المرحلة من الحرب ( *طوفان الأقصى* ) وبالتأكيد هناك صراع مؤجّل توفّرت كل أسبابه ولا بُدَّ أنّه كالقيامةِ ذات يومٍ آت.

ففلسطين يجب أن تتنفس الحياة كدولة وهذا لم يرد في نصوص التسوية الترامبية.

ومستقبل الفلسطينيين وحقهم في الأرض والمسجد الأقصى لن يُختزل ابدًا في معالجات ذات طابع إنساني مدعى.

انه فعلًا مشهد فصيح لكيفية إحدث مواجهات العصر ما بين مصادر القوّة وصراع الإرادات،

وكيف إستمدّت حماس هذه الروح، وأهدت الشعوب سلاحًا فعّالًا أمام موجات الهيمنة والإستحواذ.

والأيّـام حُبلى بالحوادث.

 

*ولا غــالِـبَ إلّا الله* .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى