مقالات الظهيرة

صهيب حامد يكتب… آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(١٧-٢٥)

حسنا.. أما وقد مسحنا في الحلقات السابقة الطاولة ، فأعدنا اولاً قراءة ما حدث في سلطنة الفونج والتركية التي أعقبتها ثم دلفنا ثانياً لتأويل ما حدث في سلطنة الفور.

 

وهكذا لتصبح مهمتنا العاجلة من بعد ذلك إعادة قراءة ما حدث في المهدية بإستخدام نفس الأدوات التي حاولنا بها سبر تاريخ ممالك السودان الوسيط ممثلة في الفونج و الفور.بالأحرى فإننا سنقوم بتشريح الكينونة التي أنتجها جدل أو صراع البُنى بفعل أهمّ دور أسَّست له الثورة المهدية وهو إستجلاب جميع هذه البُنى التي شكلت السودان الحديث ووضعها إلى جانب بعضها البعض في نفس حقل الكلية (الدولة المهدية)!!.

 

وقبل أن نستخدم أدوات منهجنا (التحليل الفاعلي) للقيام بهذه المهمة يتوجب أولا التنبيه للإخفاق الإستراتيجي الذي تم من قبلنا كسودانيين لمقاربة ما حدث في المهدية وما هي أسباب هذا الإخفاق!!؟

 

إن قصور الأدوات وفقر منهجيات التحليل التاريخي هو متخلل طبيعي ومنطقي في السودان ناتج عن المدخل الأيديولوجي للمثقف السوداني في مقاربته لقضايانا الثقافية والتاريخية وهو أمر ناتج كذلك عن قصور مريع في ملكة التفلسف للمثقف السوداني.

 

وهذا الإشكال هو فرع من الطبيعة الإستلحاقية (الإستلافية بالأحرى) لأنظمتنا الفكرية والإستراتيجية منذ التركية السابقة و الي اليوم وهو ما سنستفيض فيه ضمن تحليل المعضلات الثلاث.هذا الدرس الذي نمارسه اليوم هو في غاية الأهمية لأنه سيكشف عن ثلاث معضلات سنقوم بتشريحها أولا ومن ثم معالجتها في المقام الثاني تمهيدا لتقديم قراءة مفيدة لراهننا الحالي ومن ثم السير قدماً لبناء سودان واحد قوي متماسك يمكنه التغلب على التحديات الماثلة وبناء وطن يفيض خيره على جميع أبنائه في برنامج للعطاء يستلهم ويستدمج بنية عقل (خلّاق) يتجاوز بنا وعي القصور الذي ألهمتنا إياه البُنى التي أوصلتنا لهذا الدرك.. بنية العقل التناسلي الذي ورثناه من الفونج وبنية العقل البرجوازي الذي ورثناه من الفور.إذن لتجاوز ذلك يتوجب علينا أولا إعادة قراءة وتركيب تاريخ المهدية!!. المعضلة الأولى هي المغالطة الإشكالية (Problematique fallacy) التي آثارتها القراءات السابقة لتاريخ السودان ، ثم ثانيا معضلة الإستلباد الإستراتيجي (Strategic Disappearance) وهو ما عبر عنه د. محمود الزين بإشكالية عدم إنفكاك الخرطوم من كونها عاصمة تركية وهو ولله الحمد والمنة ما تجاوزته بنا حرب الجنحويد الدائرة اليوم ببلادنا بعد هزيمتنا لهم حتى بعد إندساسهم (بالأحرى إستلبادهم) في عظم مركزيتنا لعامين حسوماً ، أما المعضلة الثالثة والأخيرة فهي معضلة الإستلحاقية الإستراتيجية وهي المعضلة التي إن لم يتم تجاوزها اليوم قبل الغد فسوف يصبح السودان قريبا هباءاً منثوراً حتى وإن إنتصرنا في ألف (معركة كرامة)!!؟.

 

حسنا.. وبخصوص المعضلة الأولى (المغالطة الإشكالية) وهي تشبه أو تتطابق مع الإشكالية الناتجة عن محاولة الغرب (Occident) لفهم الشرق (Oreint) ، فكما يقول بروفسير إدوارد سعيد أن معضلة الإستشراق أنه قد قسّم العالم لثنائيتين. العالم الذي فيه نحن (أي أصحاب الخطاب الإستشراقي من الغربيين) والعالم الذي فيه هم (أي الكائنات الشرقية).

 

يستطرد البروفسير سعيد في رائعته الباذخة (الإستشراق) أن ما قاله ال (نحن ) وهو يعني هنا الغرب هو في النهاية خطاب غربي عن الشرق وليس بضرورةً أن يعبر بصدق عن ال (هم) والذين هم الشعوب في شرق المتوسط (The Levant). فالإستشراق بحسب إدوارد سعيد لا يعبر سوى عن تصور هؤلاء الغربيين عن ما يتوجب أن يكون عليه الشرق وليس (الشرق) فعلا!!!. هل وقعنا في نفس خطأ الإستشراق (Orientalism) الذي شرحه إدوارد سعيد!!؟..

حسنا.. فلقد تم إنتاج عديد القراءات لتاريخ السودان ولكنها للأسف في معظمها قد وقعت في نفس الشرك (الإستشراقي) وهي بالطبع قراءات جميعها تعبر عن هواجس مركزية ، هواجس المركز المسيطر مثلها مثل الإستشراق. وكذلك ف(آيديولوجية المركز العروبي) هي أيضاً مركزية. أي نحن نقرأ المهدية انطلاقاً من هاجس أيديولوجي سبّبته (آيديولوجية المركز العروبي) ، وهنا فإن الممثل الفذ لذلك بلا منافس هو الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه المهم (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) حيث يقول (لقد تجمّع غرب السودان من حول المهدي بإعتباره مهدياً منتظراً وقد كان الغرب يعني جماع (الفور والمسبعات وتقلي) وهي قاعدة تتسم بحداثة إسلامها ، وبإنعزالها الإقليمي الطبيعي الجغرافي عن مراكز الحضارة المتوسطية ، بالإضافة لتركيبتها الإجتماعية-القبلية الأكثر تخلفا في السودان)الجزء الأول ص ٩٤. وبالطبع ها هنا فإن أستاذنا حاج حمد إنما يصدر من العقل الشعبي لوسطه الإجتماعي وليس من موقعه كمؤرخ ومثقف نحرير ، فهو يقول في نفس المصدر السابق ص(٨٥):(هناك مصادر عديدة توضح أن مصدر إبتعاث الفكرة المهدوية وتوظيفها دينيا وسياسيا لا يعود لمحمد أحمد المهدي نفسه بقدر ما يعود للرجل الثاني وهو الخليفة (عبد الله التعايشي) إذ سبق للأخير أن عرض نفس الفكرة وبذات الأسلوب لقائد سوداني هو (الزبير باشا رحمة) قبل ثماني سنوات من عرضها على محمد أحمد المهدي).

 

إذن حدث هنا خلط مريع وهو أمر ناتج عن قصور في الأدوات المنهجية لتحليل القوى الإجتماعية في غرب السودان ، فحاج حمد منطلقاً من المخيال الشعبي غرّ في روعه أن الخليفة عبد الله التعايشي ووسطه الإجتماعي يمثل غرب السودان حضارياً وثقافياً وهو خطل لا يغتفر ناتج عن إهمال مريع في الإطلاع على تاريخ ممالك السودان الأوسط والغربي ومنها مملكتي الفور وودّاي. فمجموعات البقارة التي ينتمي إليها الخليفة عبد الله التعايشي هي قوى إجتماعية كانت تعيش على هامش مملكة الفور ولم تستطيع أن تدمج نفسها في نسيج (الكيرا) السياسي و الإجتماعي لأنها (أي البقارة) قد إستدمجت بنية عقل تناسلي أخَّر إستجابتها لمفاعيل الوعي البرجوازي الذي إستدمجته القوى الإجتماعية التي مثلتها الطبقة السياسية الكوزموبوليتانية لبلاط (الكيرا). هل سقط من وعي أستاذنا حاج حمد هذه الحقيقة التاريخية!!؟.. بل هل سقطت هذه الحقيقة عن وعي كامل نخبتنا منذ مؤتمر الخريجين إلى اليوم وهي نخبة يفتخر زعيمها أنه يثير كل هذه الزوبعة دون أن يكمل قراءة كتاب احد بحسب ما أورده استاذنا حاج حمد !!؟. لم يعاني غرب السودان من إنعزالية إقليمية وجغرافية طبيعية كما يقول حاج حمد في أعلاه بل لقد عاش غرب السودان في تواصلية حضارية وثقافية مع الدولة العثمانية ممثلة في الباب العالي وكذلك مع نابليون ومع مصر المملوكية ومع مصر العلوية في ظل حكم أسرة محمد علي باشا وكذلك مع شمال أفريقيا ومع ممالك السودان الغربي. لقد أكّدت الشواهد التاريخية تواصل تجارة المسافات الطويلة عبر القوافل بين أسيوط و

 

(أوري) عاصمة تنجر حتى ما قبل ١٥٨٠م ولقد إستمر هذا التواصل في ظل سلطنة (كيرا) إنطلاقا من مدينة كوبي (Kobbei) ٣٥ ميل شمال غرب الفاشر وقد تم تأسيسها علي يد الجلابة الهوارة والجعافرة والدناقلة وقد كانت مدينة نيلية بإمتياز كما وصفها (براون) في زيارته لها في ١٨٠١م إذ وجد بها مجتمع تجاري من مصر وتونس وفزّان وسودان وادي النيل ووداي. لقد حدث ذلك حتى قبل أن تهب الرياح المتوسطية التي يحكي أستاذنا حاج حمد أنها هبّت على سودان وادي النيل للتو في ١٨٢١م. لقد طفر بالطبيعة الكوزموبوليتانية لسلطنة (كيرا) بروز محور (الفاشر-كوبي) الذي خلق طبقة سياسية في البلاط لا يتأسس وجودها على الحق الوراثي ( Heradeitary right) بل على الوظائف (Titles) وهو ما أبعد الفور من وظائف الدولة كلما إبتعد سرير السلطنة من جبل مرة

 

كي يبرز لنا في التاريخ أب شيخ (محمد كُرّة) وآدم بوش (الميدوبي) والمقدوم مسلم وأحمد شطة وأن يكون عمر التونسي وإبنه محمد بن عمر التونسي أهم مستشاري السلطانين عبد الرحمن الرشيد وإبنه محمد الفضل وأن يكون (الفقرا) من الجوامعة وباقرمي وكانم برنو وسوكتو من أهم مستشاري البلاط كقضاة أو مانحي (بركة) وبذلك أصبحوا أهم مالكي الحواكير في السلطنة. لقد زوّج سلاطين الفور كريماتهم للتجار الكوزموبوليتانيين فمحمد الفضل زوّج كريمته لمحمد الإمام من الجوامعة (الطريفية) أحد أقطاب مدينة كوبي (العاصمة الإقتصادية والميناء الرئيسي) والسلطان محمد الحسين زوّج كريمته لمحمد خالد زقل (دنقلاوي) وحاكم دارفور في أوّل المهدية فيما بعد. بل نجد أن الباب العالي في تواصله مع سلاطين (كيرا) قد منح بعضهم الألقاب السلطانية كعبد الرحمن

إبن السلطان أحمد بكر الذي صار اسمه برقعة سلطانية من إستانبول (السلطان عبد الرحمن الرشيد) في العام ١٧٨٨م فهل يمكن أن يتصور لنا أستاذنا حاج حمد أين كان السودان النيلي َأنذاك!!؟. إذن من أي معين يمتاح أستاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد حين وصف غرب السودان بالإنعزالية الإقليمية والجغرافية الطبيعية!!؟.

قطعا فلقد إمتاح أستاذنا حاج حمد من العقل الشعبي للقوى الإجتماعية التي عبّر عن تصورها في كتابه (السودان.. المأزق التاريخي). نفس العقل الشعبي الذي وصفه بروفسير إدوارد سعيد في كتابه (الإستشراق) والذي يقسّم العالم ل (نحن) و(هم). ومن هنا تنبثق المعضلة الإشكالية التي حكمت كتابة التاريخ لدينا منذ ما قبل الإستقلال..نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى