صهيب حامد يكتب…. آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٥-٢٠)
متلازمة كردفان (Kordofan factor):
من المؤكد أن كل محاولات سلاطين (كيرا) الإمبريالية والتوسعية منذ (أبّا كوري) سليمان سولونج تكسرت على أعتاب سلطنة ودّاي. للفور قناعة راسخة أنهم الوريث التاريخي لسلطنة (تنجر) التي إزدهرت قبل قيام سلطنة (كيرا) ويرجح أنها كانت تضم كل من سلطنات الفور وودّاي والتامة والقمر.
إذن وإنطلاقاً من هذه القناعة فيتوجب أن يدفع (المابا) بودّاي الجزية لسلطان (كيرا). نتيجة ذلك شنّ (الكيرا) عدة حروب ضد (ودّاي) راح ضحيتها سلطانان (عمر ليل وأبو القاسم) ، مما غرّ في روع السلطان التالي تيراب (١٧٥٢-١٧٨٧م) أن لا سبيل لتحقيق أي نجاح في هذه الجبهة ،.
فشرع في التفكير للتوجه شرقا (كردفان) عاقداً معاهدته الشهيرة مع سلطان ودّاي (جودة) لتهدئة الأوضاع بين السلطنتين.تقول الرواية الشفاهية أن للسلطان (سولونغ) أخ إستقر بكردفان (تسنام) وظل يحكمها نيابة عن (الكيرا).
وقد أطلق عليه الفور لقب (مسبع) وهو تحريف لفظي ل (مصبّح) إي الذي إتجه شرقاً ، وبذا صارت سلالته تعرف بالمسبعات (Musabbaat). ولكن لم تكن دوما العلاقة بين (الكيرا) و(المسبعات) جيدة خصوصا في ظل مطامع الأخيرين في وراثة عرش الأوائل. لقد راج في أروقة بلاط (الكيرا) الإهتمام بالشبكة التجارية غاية في الثراء والإزدهار التي كان يديرها جلابة بارا والأبيض من الدناقلة والجعليين المستقرين هناك ممن تمرّسوا في تجارة الصمغ العربي والعاج والرقيق والذهب الرسوبي (Allovial gold). لقد دعمت (كيرا) (هاشم بن عيساوي) للوقوف في وجه (الغديات) وكلاء الفونج بكردفان.
ولكن نتيجة للصراع على السلطة بسنار منذ الإطاحة ببادي الرابع بواسطة أبو لكيلك في ١٧٦٢م لم تستقر الأوضاع هناك البتة مما إنعكس على وضع حلفائهم في الإقليم المتنازع عليه بينهم والفور (كردفان). وهكذا إستثمر السلطان هاشم هذا الوضع فراكم ثروة طائلة من الذهب والرقيق والعاج الأمر الذي جعله يتمرد على أقاربه غربا وبدأ في مناوشتهم بين الفينة والأخرى.
ولكن من يد فلقد كان التنظيم العسكري لجيش (الكيرا) آنذاك يتفوق نوعيا رغم إمتلاك السلطان هاشم ١٠ الف من النوبة إسترقهم للتو عبر غزواته المتتالية لمناطقهم بالجبال الجنوبية. كان سر قوة جيش (الكيرا) في الفرسان.
وهو السلاح الحاسم أو ما يمكن تسميته بالظاهرة الحربية في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. فالحوجة لقوة إمبريالية تتناسق مع طموح وعقيدة النخبة الأرستقراطية والسياسية ببلاط (الكيرا) أدت لبروز هذه الظاهرة (الفرسان المسلحين) الذين يدخلون الرعب في قلوب المزارعين المستقرين والرعاة وكغزاة لجلب الرقيق والذين سوف تطبق سمعتهم الأفاق من معركة واحدة. يقول أوفاهي أن السلاح الناري قد دخل الممالك السودانية مبكرا ولكن ظل السلاطين والملوك يفضلون الرجال الواقفين على صهوات جيادهم لقدرتهم الفائقة على الإنتشار في مساحات واسعة بعكس حاملي البنادق والذين تبرز أهميتهم في مواجهة الجيوش المنظمة.
كذلك كان الفرسان أقل تكلفة فالحملة لا تحتاج لعدد كبير من الفرسان ، إذ لم يلزم أب شيخ (محمد كرّة) أكثر من ٢٠٠ فارس على صهوات جيادهم وهم يلبسون الميري بعماماتهم الحمراء كي يفر السلطان هاشم بن عيساوي وجنوده أمامهم بلا رجعة في ١٧٨٥ ميمما شطر النيل محتميا برعايا سنار هناك. وبما أن الجياد والأسلحة عالية الجودة جميعها تستورد عبر درب الأربعين فهي حظوة سلطانية لا مثيل لها بفعل فرمانات الإحتكار التي كان يصدرها السلطان للقوافل إنطلاقا من (كوبي).
إذن هكذا سيطرت (كيرا) على كردفان في ١٧٨٥م ، وبذا ضاعفت وبضربة لازب مساحة السلطنة. إذن هل من أهمية إستراتيجية وسياسية لكردفان إلى جانب أهميتها الإقتصادية بالنسبة لكل من الفور والفونج!؟.
هل كانت كردفان هي المسرح الذي تحرك منه (أبو لكيلك) لإسقاط بادي الرابع بسنار في ١٧٦٢م بعدما أوكل له هذا الاخير التصدي لتحدي الفور بكردفان بعد بروزه كأحد أبطال الفونج في معركة الإنتصار الكبير على الاحباش في ١٧٤٤؟. إذن فلقد أدت ظروف غير مواتية سياسياً وإقتصاديا لإنقسام حاد داخل بيت
الأونساب الحاكم في سنار شرحناه في معرض تحليلنا لأوضاع دولة الفونج أنذاك.. فلقد شهدت سنار تدهوراً إقتصادياً في ظل تمرد الشايقية ضد السلطان بسنار مما عرقل حركة القوافل إليها وهو ما أنعكس على أوضاع السلطنة بشكل عام ووضع جيوش السلطان بكردفان على وجه الخصوص. هنا أوغرت مجموعات المعارضة الأونسابية صدر (أبو لكيلك) فقاد جيشه من كردفان مستولياً على السلطة بسنار ومطيحاً ببادي الرابع في ١٧٦٢م.هل كرر التاريخ نفسه بعد ربع قرن بكردفان!؟. حسنا..إنتقل السلطان تيراب إلى رحمة مولاه بعد عامين من إنتصاره بكردفان ، مما أدخل الكيرا في دورة صراع طاحن على السلطة إنطلاقا من بارا ، ولكن إستطاع رجل البلاط المحنك (محمد كرّا) أن يقنع الطبقة السياسية والعسكرية بكردفان بالتوافق على مرشحه (عبد الرحمن) أخ السلطان المتوفى من أبيهم السلطان أحمد بكر وهو ما أهّل (كرّة) العضو السابق في مجموعة الكوركوا (korkwa) أن يصعد عالياً من أدنى السلم الإجتماعي
بالسلطنة ليصبح وزيرا (أب شيخ دالي) للسلطان الجديد نتيجة الدور الذي أداه بالتنسيق مع مجموعات الحريم بقيادة زوجة السلطان المتوفي أييا كورا (كنانة) لصالح أخ السلطان المتوفى (عبد الرحمن) ، ومن هذا المنصب الجديد كحاكم لدار دالي (دار صباح) صار (محمد كرّا) مسؤولا عن كردفان. لقد
حمل الطموح الرجل الخطير أن يخصي نفسه حين إتهم بإقامة علاقة مع إحدى محظيات السلطان وهو ما رفع عنه أي شكوك إزاء ولائه لهذا الأخير. لقد دار التاريخ كرّة أخرى بعد وفاة السلطان عبد الرحمن في ١٨٠٢م كي يرمي الوزير القوي بثقله خلف إبن السلطان المتوفى القاصر (محمد الفضل) الذي لم يبلغ الحلم بعد!!.
يبدو أنه وبعد أن إستتب الأمر للسلطان (محمد الفضل) بأحابيل وزيره الخطير تركّزت السلطة في يد هذا الأخير فكثر مكوثه في كردفان ويبدو أنه كوّن قوة هناك وراكم ثروة أثارت شكوك الكثيرين مما حدى بأعداء الرجل إثارة شكوك السلطان الشاب حوله، فأرسل هذا الأخير أحد ألدّ أعداء الرجل (محمدبن على الدوكومي) للقبض عليه. وهكذا كي يتفاجأ (كرّا)
بإرسالية السلطان المدججة فوضع نفسه في القيود تحت دهشة القوة المرسلة كي يحضر أمام السلطان صاغراً نافياً التهمة ومذكراً السلطان بكل ما فعله من أجله ومن أجل أبيه فحن قلب السلطان لوزيره المظلوم وهكذا عاد الرجل لمباشرة مهامه خلال منصبه الخطير (أب شيخ دالي). ولكن يبدو أن العطار
لا يصلح ما أفسده الدهر كي يجد كرّة نفسه وإبنه بالتبني (شلفوت) وجماعتهم في إحدى ليالي الفاشر الظلماء تحت حصار جنود السلطان وفلقناياته المدججيين بالسلاح ليخوض معركته الأخيرة الواجب خوضها كلعقة من إناء اللعنة الكردفانية التي أصابت قبل ربع قرن بلاط سلطنة الفونج ولكن مع فارق أن اللعنة الأولى قد ذهبت بالسلطان (بادي الرابع) بينما ذهبت اللعنة الثانية بالوزير (كرّة) أخطر رجل سياسة أنجبته أروقة الحكم في ممالك السودان الوسيط.
يشفّ لنا التاريخ من خلال إنتصار الكيرا بكردفان في ١٧٨٥م أوضاع توازن القوى بين الفونج والكيرا ، فليس من شك أن موازين القوى قد رجّحت كفة الفور (الكيرا) لأسباب الإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي التي تمتعت بها دارفور آنذاك ، بعكس سنار التي تأثّرت بأوضاع الإنقسام نتيجة الصراع بين الأونساب من جهة والهمج من أتباع الشيخ (أبو لكيلك) من جهة أخرى. بالفعل فلقد كانت سنار آنذاك تنازع رمقها الأخير بينما كانت سلطنة (كيرا) تتأهب للدخول إلى عصرها الذهبي بقيادة السلطان عبد الرحمن الرشيد وإبنه محمد الفضل. لقد إرتبكت ميكانيزمات التوافق بسنار بفعل إنقلاب البلاط في حقبة بادي الرابع بتبنّي الدستور العربي بخصوص إنتقال الأرومة الإجتماعية عبر سلسلة الذكور بدلا من عقيدة الأونساب في إنتقال الأرومة عبر سلسلة بنات عين الشمس. وبالطبع فلقد كان لذلك نتائج إقتصادية وسياسية مدمرة على سنار. أما دارفور وفي نفس هذه الحقبة فعاشت أوج إزدهارها لسيادة التوافق الإجتماعي َوالسياسي الذي خلقه إزدهار آلية (التبادلية) التي كانت لحمتها وسداها (الحاكورة) في إطار مفهوم (الحاكورة مقابل الولاء).. نواصل.