مقالات الظهيرة

زيارة البرهان لتركيا: حين تلتقي المصالح وتولد المحاور الثقيلة

الظهيرة – د. محمد تبيدي:

لم تكن زيارة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني القائد العام للقوات المسلحة، إلى تركيا زيارة بروتوكولية عابرة، ولا محطة علاقات عامة تُضاف إلى سجل الزيارات الرسمية. بل جاءت في توقيت إقليمي بالغ الحساسية، وفي لحظة تتقاطع فيها المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية لدول محورية في الإقليم، على رأسها تركيا، السعودية، مصر، والسودان، بما يشي بملامح تحالف مصيري قيد التشكّل، يتجاوز المجاملات الدبلوماسية إلى إعادة هندسة موازين القوى في البحر الأحمر وشرق المتوسط وعمق القارة الإفريقية.

السودان، الخارج من أتون حرب مدمّرة، لم يعد يبحث عن حلفاء للخطابة، بل عن شركاء للنجاة وإعادة البناء. ومن هذا المنطلق، فإن اختيار أنقرة لم يكن صدفة. فتركيا تمتلك خبرة مركّبة في إدارة الملفات الأمنية، وإعادة الإعمار، وبناء الجيوش الوطنية، فضلاً عن حضورها الاقتصادي المتنامي في إفريقيا، وقدرتها على التحرك المرن بين الشرق والغرب دون ارتهان كامل لأي محور.

زيارة البرهان حملت رسائل متعددة الاتجاهات. أولها أن السودان لم يعد ساحة مفتوحة للتجاذبات، بل طرف فاعل يسعى لإعادة تعريف موقعه الاستراتيجي. وثانيها أن الخرطوم تدرك أن أمنها القومي لا ينفصل عن أمن البحر الأحمر، ولا عن استقرار مصر، ولا عن عمقها العربي الذي تمثله السعودية، ولا عن الشراكات الذكية التي تتيحها تركيا.

اللافت في هذا المشهد أن خطوط التلاقي بين تركيا والسعودية ومصر باتت أكثر وضوحاً مما كانت عليه في السنوات الماضية. فالتفاهمات الإقليمية الجديدة، وتراجع منسوب الصدام، وارتفاع كلفة الفوضى، كلها عوامل دفعت هذه الدول إلى إعادة ترتيب الأولويات، والبحث عن مساحات مشتركة، يأتي السودان في قلبها، لا على هامشها.

السعودية، التي تنظر إلى البحر الأحمر بوصفه شرياناً حيوياً لأمنها القومي ورؤيتها الاقتصادية، تدرك أن استقرار السودان ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية. ومصر، التي ترى في السودان عمقها الجنوبي وسندها التاريخي، لا يمكن أن تقف على الحياد إزاء ما يجري فيه. أما تركيا، فتنظر إلى السودان كبوابة إفريقية واعدة، وشريك يمكن أن يلعب دوراً محورياً في معادلات الإقليم إذا ما استعاد عافيته.

من هنا، يمكن قراءة زيارة البرهان باعتبارها حلقة في مسار أوسع، عنوانه الانتقال من سياسة رد الفعل إلى سياسة بناء المحاور المتوازنة. محور لا يُبنى ضد أحد، لكنه يُقام لحماية المصالح المشتركة، وضبط الفوضى، ومنع تمدد الميليشيات العابرة للحدود، وتجفيف منابع العبث الإقليمي.

التحالف المصيري الذي تلوح ملامحه لا يقوم على الشعارات، بل على المصالح الصلبة. إعادة إعمار السودان، توحيد مؤسساته العسكرية، تأمين الموانئ والممرات البحرية، مكافحة الإرهاب، وضبط الهجرة غير الشرعية، كلها ملفات لا يمكن لدولة واحدة أن تديرها بمفردها. وهنا تتقاطع الحسابات، وتصبح الشراكة خياراً عقلانياً لا مناص منه.

ختاماً، فإن زيارة البرهان إلى تركيا ليست نهاية الطريق، بل بداية مسار معقّد، يتطلب إرادة سياسية، ووعياً شعبياً، وقدرة على تحصين القرار الوطني من الاختطاف. السودان أمام فرصة تاريخية ليكون رقماً صعباً في معادلة الإقليم، لا عبئاً عليها. والتحالفات لا تصنع المعجزات وحدها، لكنها تفتح الأبواب لمن يعرف كيف يدخل منها.

 

وأنا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى