مقالات الظهيرة

(همس الأربعاء) خالد أمين زكي يكتب… أولادي وأولادك ضربوا أولادنا (2) : من يلملم دمع ” الأب” في عراء النزوح

فيما سبق، كانت “الحدوته “السودانية التي أبكتنا، حين رأينا البيت ينقسم على نفسه، و الأخوة يقتسمون الحطام، و ضاع بين ” أولادي و أولادك” جيل ٌ كامل من ” أولادنا” الذين تشردوا في المنافي، أو تواروا تحت الثرى قبل الأوان. و اليوم، نعود بقلب مثقل، لنبحث في ركام هذا الحريق عن ” الأب “.. ذلك الغائب الحاضر الذي ترك مكانه للفراغ. و الريح.

إن ” الأب” في وجعنا الوطني ليس مجرد سلطة، بل هو” الوطن” الذي انكسر خاطره، و” السياسي” الذي ضلّت خطاه طريق الحكمة. إننا نعيش حالة ” يتم وطني” قاسية؛ فلا الأب كفكف دموع الصغار، و لا الصغار استحيوا من شيب هذا الوطن الذي اشتعل رأسه حزناً. و ما أصعب أن يرى الأب أبناءه يتنازعون على إرثه و هو لا يزال ينبض بالحياة، يمزقون ثوبه ليرقعوا به راياتهم الحزبية و الجهوية، بينما هو ينظر إليهم بعينٍ دامعة و قلب مكلوم.

إن دور الأب السياسي اليوم هو ” البكاء الذي يفضي إلى فعل”، و الحزن الذي يوقظ الضمير. أين كان هذا الأب حين انفرط عقد الدار؟ إن السياسي الذي يمارس دوره بصدق هو الذي يشعر بالخجل قبل المواطن، وهو الذي يدرك أن ” هيبة البيت” ليست في صليل السلاح، بل في العدل الذي يجعل الأبن ينام قرير العين خلف باب الدستور.

لقد آن الأوان لهذا ” الأب” أن يسترد ميزانه، ليس سطوة بالإكراه، بل بسلطان ” العقد الإجتماعي”. إننا لا نحتاج لخطب رنانة تزيد الحريق إشتعالاً، بل نحتاج لدمعة صدق تمسح غبار الغبينة، و ليدٍ ترتعش غيرةً على تراب كاد يسيل من بين أصابعنا و نحن نتفرج.

ملامح العبور دستورٌ يضمِّد جراح ” البيت الكبير” لكي لا تذهب دماء ” أولادنا” سُدى، و لكي نبني سوداناً معافى يلملم ما تبقى من شتاتنا، يجب أن نضع ” الدستور الدائم” كشاهد ملك على توبتنا الوطنية؛ دستورٌ لا يحابي أحداً، بل يحمي الجميع بإختصار غير مخل.

السودان هو “الأبن الشرعي” الوحيد لهذا التراب؛ له ما للجميع و عليه ما عليهم، لا تمنعه قبيله ولا ينقصه نسب، و الهوية هي السودان.. وكفى.

و أن تصرخ مواد الدستور في وجه كل من يرفع السلاح : ” قف.. هذا أخوك”. تجريم العنف السياسي و تحويل القوة إلى درع يحمي الإنسان، لا سهمٍ يرتد لصدره.

سيادة القانون : أن ينصاع الحاكم و المحكوم أمام منصة القضاء؛ قانونٌ يقتص للمظلوم في أقاصي القرى بنفس القوة التي يحاسب بها من يسكن القصور.

عدالة ” الكسرة” والثروة : أن توزع موارد البلاد كأمانة مقدسة بين الأخوة؛ فلا يجوع طرف ليشبع آخر، و لا يُبنى إقليم على أنقاض تهميش أخيه.

ثم إبعاد إجهزة الدولة عن يد التحزب و المحاصصة، لتبقى مؤسساتها العسكرية و المدنية خيمة تسع الجميع، لاغرفة يغلقها طرف دون الآخر.

في همس الأربعاء، نكتب هذه الكلمات و القلب يقطر أسىً على حالنا، لكنه أملٌ يرفض الإنطفاء رغم الظلمة. إن بناء ” سودان معافى” ليس ترفاً فكرياً، بل هو طوق النجاة الأخير قبل أن يبتلعنا بحر الضياع. الأب الحقيقي هو من ترك لأبنائه ” قانوناً” يحميهم لا ” ثأراً” يطاردهم.

فيا ساسة بلادي.. أنصتوا لنحيب هذا الوطن، فقد شخنا قبل الأوان، و تعبت هذه الأرض من احتضان الأجساد الصغيرة. عودوا إلى “رشد الدستور” ، فما زال في البيت السوداني متسعٌ للحب.. إن صدقت النوايا و تطهرت القلوب، فما زال في ” نيلنا ” ما يكفي لنشرب جميعاً، و في ” أرضنا” مايكفي لنحيا جميعاً.. فقط إذا كفّ ” أولادنا” عن الضرب والتشاكس، واستعاد ” الأب” صوابه ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى