مقالات الظهيرة

إبراهيم شقلاوي يكتب في (وجه الحقيقة)…. السودان.. فرض الإرادات وصناعة السلام

برفضه الهدنة المطروحة من قِبل الرباعية، أكد الجيش السوداني تمسكه بخياره الاستراتيجي في مواصلة الحرب حتى إخضاع التمرد، انطلاقًا من قناعته وتجاربه السابقة بأن أي هدنة تُفرض دون شروطٍ حقيقية ليست سوى غطاء لإعادة تموضع المليشيا والتقاط أنفاسها السياسية والعسكرية.

 

ورغم ما يبدو من تشدّد في هذا الموقف لدي الإقليم، إلا أنه يجد تعاطفًا شعبيًا واسعًا، لأنّ شعبًا ذاق مرارة المجازر والانتهاكات في الفاشر، وبارا، والجنينة، وود النورة، والهلالية، والسريحة، لا يمكن أن يقبل بعودة تلك المليشيا إلى المشهد الوطني بأي مسمى سياسي أو إنساني.

 

قرار مجلس الأمن والدفاع بالأمس بالمضي في التعبئة العامة ، يعكس رؤية استراتيجية لإعادة تعريف الحرب نفسها بوصفها معركة وجودية للمحافظة علي بقاء الدولة، لا صراع سلطة كما يحاول البعض تصويرها.

 

فقد أدركت المؤسسة العسكرية بتجاربها السابقة أنّ التسوية، في ظل استمرار الدعم الخارجي للتمرد وتناقض الإرادات الدولية، لن تصنع سلامًا مستدامًا بل ستعيد إنتاج الأزمة في صورة أكثر فظاعة .

 

لذلك بحسب مراقبين فإن قرار المجلس حاسمًا في التأكيد على أنّ أي هدنة لا تقوم على انسحاب المليشيا من المدن وجمع سلاحها وفق اتفاق جدة، هي هدنة استسلام سياسي ولن ينتج عنها سلام حقيقي مستدام .

 

داخليًا، يواجه القرار السوداني مأزقًا مزدوجًا بين الشرعية الوطنية والواقعية السياسية. رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان يقف أمام معادلة صعبة : إن قبل الهدنة بشروطها الرباعية خسر رصيده الشعبي والعسكري، وإن رفضها تحمّل أمام المجتمع الدولي مسؤولية الكارثة الإنسانية. لذا أصبح التوازن بين الداخل والخارج مرهونًا برؤية وطنية متكاملة يجب التحرك فيها الان علي ان تحفظ سيادة البلاد وتضبط الإيقاع السياسي والدبلوماسي في معا .

 

في المقابل، لا يبدو أن الرباعية ستتقبل بسهولة قرار مجلس الأمن والدفاع السوداني برفض الهدنة، لكنها مضطرة عملياً للتعامل معه كأمر واقع. فالمجلس يمثل السلطة السيادية العليا في البلاد، وأي محاولة لتجاوزه أو فرض إرادة عليه ستواجه رفضاً شعبياً واسعاً، فضلاً عن أن التوازنات الإقليمية باتت أكثر تعقيداً من أن تسمح بفرض ضغوط او تسوية أحادية.

 

تدرك واشنطن أن الضغط الزائد على الجيش قد يدفعه نحو تحالفاتٍ جديدة مع موسكو أو بكين أو أنقرة، لذلك تبدو حذرة في خطواتها رغم لهجتها العلنية المتشددة.

 

بدا واضحاً أن الموقف الأمريكي يحاول إعادة تدوير الأزمة في صيغة “هدنة إنسانية”، فيما تُخفي بعض الأطراف الإقليمية، خصوصاً أبوظبي، رغبةً واضحة في إعادة إنتاج الوضع ما قبل 15 أبريل 2023، أي إعادة المليشيا إلى المشهد بوصفها شريكاً سياسياً .

 

لكن هذا المسعى يصطدم بجدارٍ من الإرادة الوطنية الصلبة، إذ أصبح الشارع السوداني أكثر وعيًا بخرائط الصراع والاطماع ومصالح القوى المتدخلة في البلاد. التي تقدم مصلحتها علي مصالح الشعب السوداني.

 

التحليل البنيوي للأحداث وتداعياتها يوضح كذلك أن الموقف الشعبي الرافض لأي إدماج للمليشيا لا يقوم على العاطفة أو الثأر، بل على وعي سياسي نابع من إدراك تجربة الدولة الحديثة في السودان. فالسودانيون يدركون أن أي “تسوية فوقية” لا تقوم على العدالة والمحاسبة ستُنتج سلاماً مؤقتاً يعيد إنتاج الحرب في دورة جديدة.

 

إن الذاكرة الجمعية لمجازر ود النورة والسريحة و الجنينة و الفاشر تشكل ما يسمي في علم السياسة “الذاكرة التأسيسية للصراع”، التي تمنع المجتمع من القبول بأي إعادة تدوير للجناة تحت مظلة المشاركة السياسية. لذا فإن أي سلام لا يمر عبر العدالة الانتقالية سيظل سلاماً قسرياً بلا جذور.

 

ما يغيب عن بعض صناع القرار هو أن الحرب في السودان ليست حرباً “داخلية” بالمعنى الضيق، بل حربٌ جيوسياسية ممتدة. إنها حرب بالوكالة عن مصالح عابرة للحدود، تُدار على أرض السودان بين مشاريع متعارضة: مشروع الاستقلال الوطني في وجه مشروع التدويل الاقتصادي والأمني. ومن ثم فإن أي هدنة لا تُفكك البنية الإقليمية الداعمة للمليشيا ستتحول إلى استراحة تكتيكية يعيد فيها الخصم ترتيب صفوفه لا أكثر.

 

السلام الحقيقي هو سلام يصنعه الشعب السوداني عبر حوار داخلي جامع يتجاوز الوصايات الإقليمية والدولية، وينطلق من إعادة تأسيس دولة تحترم كرامة الإنسان وتفصل بين سلاح الدولة وسلاح المليشيا . سلام كهذا يتطلب مداولات جادة ، آليات عدالة انتقالية، وبرنامجًا تضبطه المنظومة الأمنية والقضائية والتشريعية في البلاد.

 

إن فرص السودان في حسم الحرب اليوم أكبر من أي وقت مضى، ليس فقط بفعل الإرادة القتالية للمؤسسة العسكرية، بل لأن الرأي العام المحلي والإقليمي بدأ يميل بوضوح إلى رفض شرعنة المليشيا. لكن هذه الفرصة تظل مشروطة بالقدرة على إدارة التحديات السياسية والإنسانية بذكاء منتبه. فكل انتصار عسكري لا يُترجم إلى مشروع وطني جامع يعيد بناء الدولة ويؤسس لسلام دائم، قد يتحول إلى وقود لحربٍ أخرى.

 

في نهاية المطاف، بحسب #وجه_الحقيقة السودان يقف على عتبة لحظة تاريخية فاصلة بين فرض الإرادات وصناعة السلام. فرض الإرادات يعني أن تُدار الحرب بمعادلات الخارج، فيما صناعة السلام تعني أن يملك السودانيون قرارهم ومصيرهم بأنفسهم. الطريق إلى السلام الحقيقي لا يمر عبر وساطات مشروطة ولا مبادرات خادعة، بل عبر استعادة الدولة لسيادتها، وتوحيد جبهتها الداخلية، وإعلاء كرامة شعبها الذي لم يعد يحتمل أن يُفرض عليه مستقبل لا يشبه تضحياته.

دمتم بخيرٍ وعافية

الأربعاء 5 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى