عميد م/ ابراهيم عقيل مادبو يكتب… حليلكم يا النايمين على حيلكم!!
الحديث عن عودة ابراهيم بقال تؤكد أن العدو نجح في كسب معركة الإختراق الناعم بالقوة الناعمة SELF POWER بعد أن فشل في تنفيذ أهدافه بالقوة الصلبة HARD POWER
الان بات من الواضح أن جبهتنا الداخلية مخترقة تماماً حتى النخاع بما يُعرف بإسلوب خرق المجتمعات وتوجيه الأفكار، فعادةً ما يجهل الإنسان ما لا يراه، ويكوّن رؤيته الخاصة استناداً إلى المعطيات المادية التي يلمسها، ولكن ما يُخفى يكون دائماً الجزء الأخطر، فما يظهر أثناء الحروب أو خلال محاولات تغيير الحكم أو إخضاع بلد أو شعب ما لمصالح طرف أو بلد اخر، هو الجانب الخشن فقط، HARD POWER بمعنى أن الناس ينحصر تفكيرها في العمليات العسكرية والمعارك وتعتبر أن الحروب هي الوسيلة الوحيدة لكسب النصر، لقد تركز تفكيرنا في معركة الكرامة وكيفية ادارتها عسكرياً وأغفلنا جوانب وأوجه اخرى للحرب لذلك اعتقد بعض السودانيون أن معركة الكرامة هي معركة عسكرية بحتة وأنها تُنجز بالوسائل القتالية حصراً، دون الإنتباه لوجود وسائل اخرى يستخدمها العدو ويشرك فيها قوة أخرى تتبع له كانت بعيدة عن خوض المعركة، أو أن مجالها كان في معترك اخر كالإعلام في حالة ابراهيم بقال فالكل كان يعلم أنه لايؤدي وظيفة قتالية بل يتولى دوراً اعلامياً يبدو بعيدا عن العمل العسكري البحت ويظهر قبل أو عقب المعارك.
أما الجانب الذي لم نفكر فيه وبقى في الظل، فهو أن بقال كان هو أداة الحرب الحقيقية التي تعرف بإسم “الخرق الناعم” SELF POWER وهذا النوع من الخرق، هو الذي قاد الناس لقبول عودة بقال والسبب أننا مجتمع هشّ يفتقر إلى الحصانة الوطنية الكافية والتي يمكن من خلالها معرفة الهدف من عودة بقال، والتي حتماً ستليها أحداث اخرى قادمة تُحدث تغيير عميق في البنية السياسية والثقافية والاجتماعية، وهذا ما سيحصل في حال عودة بقال.
الجنجويد تقودهم الأمارات وهذه الدولة تمتلك عقول تفكر لها فهي قد درست البيئة والمجتمع السوداني واستطاعت بناء استراتيجية تمكّنهم من التغلغل في الداخل السوداني وبالتالي الحفاظ على باب أو منفذ يؤدي لقبول السودانيين بالمليشيا مرة اخرى وهذا يعني أن السودانيين سيقبلون ايضاً بعودة ووجود الأماراتيين أنفسهم في المنطقة.
للأسف الناس مفتكره أن لحظة ظهور بقال وتصريحاته عن عودته هي لحظة تنفيذ الخرق، ولكن الحقيقة أن ظهور أي خرق ليست هي لحظة تنفيذه، إذ إن التنفيذ يتم عادةً منذ زمن بعيد نسبياً عن لحظة الظهور أو اعلان بقال، فظهوره هذا ليس سوى النتائج الصادرة عن نجاح المليشيا في عملية الخرق والتأثير على عقول السودانيين فمثلاً، شعارات المليشيا تتحدث عن أن هدف “الدعم السريع” وداعميه في المدى البعيد هو “تفتيت السودان”، باعتبار أن هذا التفتيت هو “مفتاح التغيير في المنطقة”. ويُلاحظ هنا أن التخطيط لهذه العملية بدأ قبل عقود، ما يعكس مدى بُعد النظر للعدو في مسار التغلغل والتفتيت.
من المعروف أن إنجاز التغلغل يتم عبر خروقات متعددة الجبهات تشمل وسائل متنوعة: *أولاً*، إدخال الروايات المزيّفة عن التهميش في البلد المستهدف وترسيخ فكرة الثورة على الكيزان وظلم دولة ٥٦ ونفوذ القبائل الشمالية وشيوع مصطلح الجلابة وأن هناك حق مشروع للمهمشين يجب انتزاعه بالقوة. *وثانياً*، غسل العقول وحشد السرديات الهجينة في أذهان الشباب السوداني بالاعتماد على الخارج والمنظمات الدولية في حل مشاكل السودان وهذا “الخارج” يقوم بضخ أفكار مفادها أن ما قامت به المليشيا هو “فعل مقاومة للظلم” لا انقلاب أو غزو، وأنه مجرد اختلاف سياسي بين حكومة ومعارضة ومثل هذه السرديات تسعى إلى زرع أفكار تحمل شعارات مثل “التسامح”، ولكن هل يمكن تبرير غزو واحتلال مجموعة لأرض والسيطرة عليها وتهجير مواطنيها وقتلهم ونهب متلكاتهم واغتصاب حرائرهم بمصطلحات فضفاضة كالتسامح وقبول الآخر والتعايش؟ والأخطر من ذلك، أنه في حال رفض الشعب لهذه الروايات، يتم وصمه بعدم قبول الاخر وبالعنصرية والميل للحرب واعلاء خطاب الكراهية، متغاضين تماماً عن أصل العنف الحقيقي المتمثّل في الانقلاب وتخريب البلد.
عودة بقال وقبولنا لها ليست هي الخطوة النهائية -الغاية- فالعدو لا يقوم بفعل إن لم يكن مرتداً عليه بالمصالح، والمصلحة هنا تتمثل في بناء جيل كامل ليس لديه الحساسية التي كانت لدى الأجيال السابقة تجاه الإضرار بالبلد. وهذا ما يخدُم الهدف الأساسي وينتج عنه انحلال قيم المجتمع الأصلية ومبادئه، وبالتالي تصفية القضية الأساس، قضية انقلاب الدعم السريع بمساعدة قحت والتعامل مع هذه القضية ببرود وتجاهل تام يؤدي لتجاوزها ونسيانها، وبالتالي تُبني سردية جديدة تدعو إلى الإعتراف بالعدو واعتباره ككيان “طبيعي مشروع” وفصيل سياسي لا مانع من عودته والمشاركة في الحياة السياسية، وهذا هوالهدف الأساسي ما يؤدي بدوره إلى تجاوز الضوابط والمحددات الوطنية لمعركة الكرامة، وهذا ما سوف يجعل المجتمع هشاً يسهل فيه بث الأفكار دون مقاومة لرفضها أو دحضها، حيث يكون المجتمع في هذه الحالة في مرحلة
“الاستسلام الفكري”، وبعد الاستسلام حتماً يتم الانتقال إلى مرحلة الخضوع للهيمنة التي فرضت نفسها بقبولنا لعودة عناصر المليشيا واحتفاءنا بهم، وبالتالي انعدام الأفكار المناهضة للمليشيا ولداعميها من القحاطة بسبب الركود في الوعي الوطني المجتمعي الذي يعوّل عليه كعنصر لرفض هذه المليشيا وقحت إلى الأبد.
إذاً، الهدف واضح، وهو سعي العدو لتحويل حقيقة حربه على السودان لتظهر وكأنها حركة توبة وعودة وانفتاح وبناء تحالفات جديدة. بطبيعة الحال، الخطأ لا يكمن في بناء التحالفات الطبيعية، ولكن هل يمكن بناء تحالف مع كيان مثل الدعم السريع قام بتدمير البلاد واصبح لا مشروعية له بعد استعانته بالخارج وجلبه للمرتزقة؟.
إذا قبلنا ذلك فأعلموا أن هذا سيؤثر على مسار الدولة ويضرب مرتكزاتها القائمة عليها، وبالتالي يُفقدها الحصانة تجاه الدخلاء عنها، فيصبح الجلوس إلى نفس الطاولة مع العدو أمراً لا ضير فيه، وحتى التحدث بلغته، والقيام بأفعاله، والترحيب بثقافته، حتى لو كان هذا على حساب ملايين الضحايا والمكلومين وحتى على حساب -الفئة المخترقة-، الراضخة لقبول عودة بقال والدعم السريع.
عميد م/ ابراهيم عقيل مادبو.