ياسر أبو ريدة يكتب…المجاهدين قدموا ما تعجز عنه الشعارات!!

لم تكن أم درمان، ولا غيرها من المدن السودانية، يومًا ساحة شعارات أو منصة هتاف. هذه المدن واجهت أخطر فصول تاريخها في ميادين مفتوحة من الدم والنار، حيث كانت الكلفة حقيقية، والخطر مباشرًا، والقرار بين بقاء الدولة أو سقوطها.
في أحلك لحظات الظلام، حين غابت المنابر وتلاشت الشعارات، لم يبقَ في الأزقة سوى رجال المواجهة. أولئك الذين اختاروا الدفاع عن الأحياء والناس، وطاردوا المليشيا خطوة خطوة، وواجهوا مشروع الفوضى بالسلاح والانضباط، لا بالخطاب العاطفي ولا بالحشد الموسمي.
عامًا بعد عام، أثبتت الوقائع أن التحرير لم يكن صدفة، ولا نتيجة ضغط سياسي أو تفاوض خارجي. الإذاعة لم تُستعد بالشعارات، والبيوت لم تُحرر بالموكب، والمدن لم تُحمَ بالبيانات. ما تحقق كان ثمرة تضحيات جسيمة قدّم فيها الشهداء أرواحهم ليبقى الوطن قائمًا.
واليوم، بعد أن تطهّرت العاصمة بدماء أبنائها، يعود خطاب قديم بثوب جديد. شعارات مُعاد تدويرها تُطرح في توقيت بالغ الحساسية، بينما جوهرها واحد: القفز فوق حقائق الميدان، ومحاولة تمرير تسويات مفروضة، تفتح الطريق لعودة المليشيا وأدواتها إلى المشهد، بعد أن فشلت في فرض وجودها بالقوة.
الاختلاف السياسي مشروع، لكن تجاهل الواقع خطيئة. واقع يقول إن الحرب علّمت السودانيين درسًا قاسيًا: لا دولة بلا أمن، ولا سياسة بلا سيادة، ولا سلام حقيقي دون حسم جذور التمرد. من لم يتعلّم من حصار القيادة، ولا من معارك أم درمان، سيظل يكرر ذات الأخطاء، ويُراهن على الخارج، ويدفع البلاد نحو ذات الهاوية.
أم درمان تعرف الحقيقة جيدًا، لأنها دفعت ثمنها كاملًا. تعرف من حضر ساعة الخطر، ومن غاب، ومن عاد اليوم يطالب بالنتائج دون الاعتراف بالتضحيات. ولهذا، فإن ما تحقق لن يكون مادة للمساومة، ولا ورقة تفاوض تُدار من خارج الإرادة الوطنية.
فالتحرير لم يكن صدفة، ولن يُفرّط فيه بدخان شعارات.



