(من أعلى المنصة) ياسر الفادني يكتب… ََبَرِيْدَا…. ورِيْدَا كَاوينَا
منذ المطلع (بريدها وريدها كاوينا وين يا ناس المدينة)، يفتح الشاعر الراوي عاشق النبي والمتيم به عبد الله محمد علي الدباسي نافذة الوجد والهيام، فـي البريد والريد هما قلب العشق في الله وفي رسوله صلي الله عليه وسلم ، وكلمة (كاوينا) تعبّر بصدقٍ عن نار الشوق التي لا تبقي ولا تذر، كأنها مجمرة الروح حين تحنّ إلى أصلها النوراني، ويستعين الشاعر بمفردات سودانية خالصة، تنضح بالعفوية والحميمية، لتغدو القصيدة قريبة من القلب، مشتعلة بحرارة اللهجة التي لا تنفصل عن التراب ولا عن الذاكرة المحبة الشعبية
الصور البديعية في النص جاءت صافية كالماء، غير متكلّفة ولا مصنوعة، فهي تنساب مع الإيقاع الداخلي للقصيدة كما ينساب النسيم في الفجر، نلمح في قوله: (بحسن الخلق اكسينا / رضاك علينا / وبي الأنوار جلينا) جمال المقابلة بين المادة والمعنى، بين اللباس الحسي والكسوة المعنوية، حيث تتحول الأخلاق إلى لباسٍ من نور، وتغدو الأنوار وسيلة تجلٍّ ومحبة، كما أن التكرار البديعي في النص، من بريدها وريدها إلى يوم ميلادو يوم حلَّ يمنح الإيقاع نغمةً دائرية تشبه دوران الذاكرين حول مقام المحبوب، فلا يعرف السامع أين البداية ولا أين النهاية، لأن كل بيتٍ عودة إلى أصل الشوق
أما اللحن الذي صاغته فرقة الصحوة فهو مقام من النور ذاته، يعتمد على السلم الخماسي السوداني الذي يخلق حالة وجدٍ جماعي، ويمنح المديح نكهته المحلية المميزة، يبدأ اللحن بخطٍ هادئٍ رخيم، كأن المؤدين يمهّدون لبوابة المقام، ثم يتصاعد تدريجياً ليبلغ ذروة النشوة في مقاطع الصلاة على النبي ، فتتسع المساحة الصوتية ويتحوّل الإيقاع إلى خفقة قلبٍ عاشق، لا يعرف السكون، آلات الإيقاع ( الدلوكة) والدفوف تلتف حول الصوت كالهالة حول القمر، بينما تمتد الأصوات الجماعية للفرقة كأمواج من نور، تردّد الدعاء والرجاء في مقام التضرع والمحبة
الأداء الصوتي لفرقة الصحوة يحمل بصمةً لا تخطئها الأذن: صفاء النية قبل صفاء الصوت، في أصواتهم رقة الدراويش حين يذكرون، ودفء المحبين حين يناجون، وجلال الجماعة حين توحّدها النغمة، التوزيع الصوتي بين المنشدين يخلق تناغماً شبيهاً بترديد الذاكرين في الحضرات، حيث يجيب الصدى عن النداء، وكأن الحاضرين في حلقة ذكر كبرى تملأ الأفق عطراً
الدباسي، في هذه القصيدة، لم يمدح الرسول بلسانه فحسب، بل بوجدٍ عميق يسكن كل بيتٍ منها، الصور الجمالية تتخذ شكل البساطة العميقة؛ كقوله: (جميل الطلعة والمظهر / صفاتك سيدي لم تُحصر / وقورا والجَبين أنور) …. هنا يبلغ البيان ذروة التجلّي، إذ يرسم ملامح الجمال النبوي لا بوصفٍ جسدي، بل بإشراقٍ روحي، فالنور هو جوهر الصورة وغايتها
إني من منصتي أستمع بحب وعشق لايضاهيه هيام لهذا العسل الصافي و أذوب تمتعا بهذه القصيدة لحناً ونصاً وأداءً لأنها تجلٍ من تجليات المحبة المحمدية في الوجدان السوداني، يجتمع فيها التراث الشعبي بالصوفية العميقة، اللغة البسيطة بالمعاني الرفيعة، والإيقاع الأرضي بالنور السماوي، كل بيتٍ فيها تسبيحة، وكل نغمةٍ صلاة، وكل صدى هو رجعُ قلبٍ يذوب وجداً في الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم … صلوا عليه وزيدوه صلاة .



