(من أعلى المنصة) ياسر الفادني يكتب…. أنا فيك عِشِقْتَ… الروعة ما أحلاها في الدَل والدلال !
أغنية ربيع الدنيا واحدة من العلامات المضيئة في مسيرة الغناء السوداني، فهي عمل يختزل تمازج الشعر الرقيق باللحن العبقري والصوت الذي يحمل من الدفء ما يكفي ليزرع الخلود في الوجدان، كتب كلماتها الجنرال عوض أحمد خليفة بفيض وجداني متدفق
فكانت الكلمات تحمل في داخلها طاقة من الحنين الممزوج باللوعة، وتفيض بصور شعرية باذخة مثل قوله: يا ربيع الدنيا في عيني، يا نور قلبي يا معنى الجمال، هنا تتجسد الروح في صورة الحبيب، فيغدو الحضور الإنساني معادلاً للربيع وللجمال المطلق، ويصبح الغرام حالة وجودية تحيا في مسارب الخيال
القصيدة ترتكز على ثنائية الأمل والانكسار، فالشاعر وهو يسكب مداد العاطفة، يعترف أن الطريق إلى الحبيبة مسدود، وأن القسمة غابت: مافي قسمة ومافي يا نور قلبي حتى بصيص أمل، لكنها ليست كلمات إستلام.
بل كلمات عاشق يستمد من الألم غناءً، ومن الفقدان فناً، فيحول دمعاته وقلبه وفنه إلى هبة كاملة للحبيبة، هذه الملامح الوجدانية الكثيفة هي التي منحت النص بعداً عاطفياً خالصاً، محملاً بالرمزية والشفافية التي تميز شعر عوض أحمد خليفة
غير أن النص وحده لم يكن ليخلد لولا براعة عثمان حسين في صياغة لحن حمل تلك الكلمات على جناح من العذوبة، عثمان حسين كان ملحناً يعرف كيف يحاور الكلمة بالموسيقى، فصاغ لحناً يذوب في تفاصيل النص، يعتمد على بناء متدرج يبدأ هادئاً كوشوشة عاشق ثم يتصاعد في المقاطع التي تنفجر بالشوق والحرمان.
اللحن جاء غنياً بالانتقالات المقامية التي تمنح السامع تنوعاً شعورياً، ففيه الحزن الرقيق وفيه الاندياح العاطفي الذي يشبه مدّ النيل حين يفيض، وما يميز اللحن أنه لم يأت مفتعلاً أو متكلفاً، بل جاء طبيعياً، كأن الكلمة وُلدت وهي تحمل نغمتها، وكأن عثمان حسين التقط منها الصوت الذي كان يتوارى خلف المعنى
أما صوته، فقد كان سر الجاذبية وسحر الأغنية الأكبر، صوت عثمان حسين يمتاز بالصفاء والدفء في آن واحد، يحمل في طبقاته القدرة على الهمس وعلى الانطلاق، ويمتلك تلك النبرة الحزينة التي تجعل حتى الفرح يمر عبر قناة وجدانية عميقة، حين يغني يا ربيع الدنيا في عيني، تشعر أن النغمة ليست مجرد غناء بل اعتراف حيّ، كأنه يسكب قلبه في أذن المستمع مباشرة.
هذا الصوت هو الذي جعل الأغنية تتجاوز حدود الكلمة واللحن لتصبح تجربة وجدانية كاملة، يدخلها المستمع فيذوب في طياتها دون أن يدرك
اني من منصتي استمع لهذا الجمال …وأقول….: إن ربيع الدنيا ليست مجرد أغنية عاطفية، بل هي لوحة فنية كاملة، شعر صادق، لحن متماسك، وأداء صوتي يحمل مزيجاً من القوة والحنين، بهذا التكوين المتكامل صنعت مكانتها الخاصة في ذاكرة السودانيين، وصارت جزءاً من تراث الغناء الذي لا يذبل، ربيعاً دائماً يتجدد كلما أطل صوته من إذاعة أو جلسة سمر أو من ذاكرة عاشق قديم.