(من أعلى المنصة) ياسر الفادني…. ها هنا ….يبتسمُ النهر القديم !!
تمثّل أغنية (عرس الفداء) للشاعر مبارك بشير وبصوت الفنان محمد وردي إحدى الذرى العالية في الغناء الوطني السوداني، عملاً تتعانق فيه الكلمة المضيئة مع اللحن المتوثّب والصوت الذي يحمل ذاكرة وطن بأكمله.
هي ليست أغنية تُسمع فحسب، بل تجربة وجدانية تلامس القلب وتستنهض في الروح إحساس الانتماء، وكأنها تُعيد تشكيل الوعي الوطني في لحظة سماع
يبدأ النص بنداء صريح للوطن، نداء يحمل نبرة اللقاء الحميم بين الأبناء والأرض: نلتقيك اليوم يا وطني لقاء الأوفياء، هنا يضع الشاعر المستمع في حالة وجدانية يتقاطع فيها الحنين بالوفاء، ويستدعي صورة أبناءٍ يهرعون نحو وطن يناديهم، كما تهرع الخيول الحرة في عتامير السودان، تشبيهات النص تستلهم المكان السوداني بأصالته وخشونته وجماله، وتمنح الانتماء ملمساً حسياً يمكن رؤيته وسماعه
يمضي النص في بناء سدّة فخر وطني عبر استدعاء رموز التاريخ: بعانخي، ترهاقا، المهدي، علي عبد اللطيف، عبد القادر الحبوبة، القرشي… أسماء ليست مجرد شخصيات، بل شواهد على تسلسل مقاومة طويلة، تتصل فيها الحضارات بالنضال المعاصر ، هذا التعداد ليس سرداً تاريخياً بقدر ما هو طقوس استحضار للأجداد في عرس الفداء، حيث يصبح الاتكاء على الماضي قوة تُشحَن بها إرادة الحاضر
يتصاعد النص في ذروة عاطفية حين يقول: نذكر الآن…. جميع الشهداء، تكرار كلمة الآن ثلاثاً يعمّق الإحساس بأن الزمن كله ينضغط في لحظة استدعاء واحدة، تُفتح فيها دفاتر العطاء الوطني، هنا يغدو النص أشبه بمرثاة واحتفال في آنٍ واحد: مرثاة لمن رحلوا، واحتفال بخلود مواقفهم.
وفي مواجهة الظلم يرتفع صوت الرفض: كل من صاح بوجه الظلم.. لا.. لا.. لا، وهي جملة تُخرج الأغنية من حدود الطرب إلى دائرة الفعل، من مجرد الغناء إلى خطاب مقاومة صريح
أما في الجانب اللحنـي، فقد صاغ وردي لحناً يحتفي بالنبرة البطولية للنص ويعزز قُدسيّة موضوعه ، يبدأ اللحن هادئاً، كأنما يمهد الطريق لموكب تاريخي، ثم ينتقل تدريجياً إلى مساحات أرحب، تتصاعد فيها الجملة الموسيقية مع تصاعد المعاني، حضور الإيقاع الجهوري يمنح الأغنية مهابةً، بينما تنفذ المقاطع اللحنية العالية كطعنة نور في قلب المستمع، تُشعره بأن الأغنية ترتقي به لا تعبُر أمامه فقط، وردي هنا لا يكتفي بكونه مغنياً، بل يصير مؤدياً وحاملا لرسالة وطنية تُنشد الجموع
وصوت وردي في هذه الأغنية ليس مجرد حامل للحن، بل هو عنصر جمالي له استقلاله. صوته المفعم بالقوة والدفء يهب القصيدة حياة جديدة، فيغدو وكأن الوطن نفسه هو الذي يغني عبر حنجرته. حين يمدّ وردي بعض الحروف ترتجّ في داخل المستمع ذكريات، وحين يهبط بالصوت تتهدّج معه مشاعر الفقد، ثم يعود ويرتفع فينشر على النفس يقيناً بأن هذا الوطن يستحق الفداء، إنها طاقة صوتية تقف على حدود بين البكاء والانتصار، بين النداء والاستجابة، بين الوجدان والفعل
وفي نهاية الأغنية، يلتقي النص واللحن والصوت ليصنعوا لحظة توحدٍ عميقة: فلتعش حراً أبياً في مهابة، كأن هذه الجملة خاتمة عهد بين الأرض وأبنائها، عهد متجدد لا تبهت صيغته مهما تبدلت الأزمنة، الأغنية هنا تتحول من نص غنائي إلى قسمٍ وطني، من لحن إلى نشيد داخلي يحمله من يسمعه أينما ارتحل
إن (عرس الفداء) ليست مجرد عمل فني، بل وثيقة وجدانية فيما يشبه الميثاق غير المكتوب بين السوداني ووطنه، إنها تذكير بما كان، وحافز لما سيكون، ونافذة يتنفس منها المرء ذلك الشعور العظيم بأن الانتماء ليس كلمة تُقال بل دمٌ يجري، وفداءٌ لا ينتهي وكرامة لا تنقطع .



