مقالات الظهيرة

مالو اعياه النضال بدني… الحلقة العاشرة

الظهيرة- عبدالله حسن محمد سعيد:

اكتب اليوم عن شخصية توقفت عندها كثيرا منذ اوائل عملي بمستشفي العيون مدني في اواخر السبعينات من القرن العشرين .

فقد كان يمثل لي لغزا يحتاج لمن يحل طلاسم شخصيته المتفردة . رجل تجذبك اليه اول نظرة وتشدك اليه شدا رحيما لبساطة ملبسه مظهرا بدويا مميزا في عاصمة الثقافة والفنون والجمال .

يتنقل بين عنابر المستشفي يداعب هذا ويتحدث مع ذاك بصوت به تمتمة خفيفة لسرعة حديثه .. دائم التنقل هنا وهناك ويستقر به المقام في مشرحة المستشفي ومغسلتها التي تحوي رفات بعضا من جثامين الغرقي ومجهولي الاهل من الذين توفاهم الموت بعيدا عن زويهم يحمل الاكفان والحنوط بين يديه ويهتم بهم كأنهم بعضا .

منه حتي يبلغهم قبورهم ودفن رفاتهم ودوما تجده يمتطي العربة جنبا بجنب ذاك المتوفي وفي معية الشرطة وان كان غريقا لبضع ايام وتحللت بعض اعضاء جسده ، او غير ذلك من صور وهيئة الموتي دون ان تعاف نفسه منظر الميت ورائحته وهيئته.

انه ذاك الصوفي الورع الذي وهب حياته للموتي يغسل جسامينهم ويكفنها من ماله وبمعاونة بعض اعيان هذه المدينة المعطاءة من لا يريدون ذكر اسمائهم اذ ان عملهم وعطائهم لله لا يبغون به منا ولا شكورا ولكن ابتغاء وجهه الكربم جهزوا معه اكفان تشهد له ولهم يوم القيامة بعملهم الذي احتسبوه لله العلي القدير.

ويتابع الجنازة حتي مثواها الاخير في مقابر ودمدني الكبري او غيرها من دور القرار في المدينة … انه الشيخ الورع احمد شيخ العرب .

علم من اعلام ودمدني الذي ترك بصماته الخيرة في قبور المدينة وله في كل قبر وفي كل كفن وفي كل جسد غسله او كفنه او واراه التراب اجر لايعرف مقداره احد فهو عند الله ثوبا عظيما وتشهد له المقابر بسبقه وزهده وكرمه وطهره ونقاء سريرته وطول يده التي اعطت في هذا الجانب ما لايمكن للكلمات ان توفي حقه ومستحقه .

شيخ العرب اسم تردده المدينة كأحد رموزها الذين ابلوا بلاء حسنا في عمل الخير بذلا في جانب لا يطرقه الا الذين حباهم الله بخصائص الصالحين الذين يعملون لاخرتهم عملا متميزا لا يستطيع غيره اداؤه فقد ميزه الله بميزات.

جعلت منه مثالا وحده في زمان يلهث الكل في الرزق عملا زاتيا يطلب به الدنيا عيشا مرفها في كل مظاهره ولكن شيخ العرب كان نسيج وحده فقد تخصص في الاهتمام بالموتي.

وخاصة في اؤلئك الذين انقطعت صلاتهم بالاهل وبالمجتمع فطفقوا يدبون في الارض بلا دليل حتي يأتيهم الموت بعيدا فلا يجدوا الا شيخ العرب …

الشيخ احمد شيخ العرب من اسرة حازت المكارم كلها ولها تاريخ بازخ في السياسة والعلاقات الاجتماعية وفي التجارة والعمل الانساني قدموا جهدا مشكورا في صفوف من خصهم الرحمن بقضاء حوائج الناس وامتد عطاؤهم في الجزيرة والنيل الازرق فقدموا حميدة وخليفة وعترتهم من الافذاذ ..

شيخ العرب ترك مدرسة متفردة في منهجها اتخذت لها عنوانا بارزا منهاجها تقديم خدمات للموتي والغرقي والمفقودين وفي حفر القبور ومنهجها التطوع عملا بحق المسلم علي المسلم في اذا مات فاتبعه واكرام الموتي غاية تتطلب الاسراع في الدفن .

مدرسة لا يلتزم بمنهجها الداعي لعمل الخير في الموتي الا من كان متخلقا بخلق القرآن يتبع آياته المحكمات التي تدعوا الي العمل والعطاء ابتغاء وجه الله الكريم ..

لا يستطيع دخول هذه المدرسة الا من تشرب بالخلق القويم وجالس القوم اهل التصوف والصلاح الزهاد قوموا الليل خمص الاجساد مقرحوا الاجفان من انجذب بكلياته نحو سنة الني الكريم في اداء حق المسلم علي المسلم وهي منهج الحقوق التي اختار شيخ العرب اصعبها وابعدها عن اهتمام الناس الا وهي (واذا مات فاتبعه ) .

وزاد عليها بأن حدد اؤلئك الذين هم احق بان تتبع جسامينهم الي مثواها الاخير اكراما للميت بدفنه بعد القيام بما يكرمه من طهارة جسده والصلاة عليه والدعاء له لا يرجو بعمله الا ابتغاء وجه الله وثوابه يوم تقوم الاشهاد عمل علي هذا النهج بهمة لم تفتر خلال اكثر من خمسون عاما قدم فيها شبابه وصباه وكهولته .

خلدت وزارة الصحة ممثلة في ادارة مستشفي مدني اسمه تعلية لقيم العطاء عنده واعترافا بفضله وتفرده في عمل الخير في اصعب ابوابه بتسمية احدي مباني المستشفي باسمه ( عنبر شيخ العرب ) وخلدت وزارة المالية اسمه بانشاء مغسلة للموتي باسمه.

يقفان في شموخ يتحدثون عن ذلك الانسان الخالد بيننا ، يذكر اهل المدينة فضله ويطمع الكل بمداعبته والحديث اليه ومجالسته فقد كان رجلا سمحا لطيفا ورعا وزاهدا وبسيطا وكان رجلا اجتماعيا …

علاقاته ممتدة تفرد ذراعيها الحانية علي كل الولاية ، وتجسد صورته ومظهره الزهد والبعد عن المظاهر فتجده في ملبسه البسيط وهو يلقي بملحفة علي كتفه.

او هو يلبس قميصا صوفيا حتي في عز الصيف لا تقعده عن اداء واجب اوقف حياته لها حرارة الجو صيفا ولا زمهرير البرد شتاءا ولا وحل الامطار وتساقطها في فصل الخريف بل تجده دوما علي اهبة الاستعداد في كل آن وفي كل مكان ليلا ونهارا … دائم الحركة بين مخافر الشرطة.

وشواطئ النيل ومشرحة مستشفي ودمدني والمغسلة والمقابر يحمل الاطفال الذين توفاهم الله قبل ان يكتمل نموهم او مفقودي الابوين لقطاء الليل كما لو كانوا ابناؤه .

مضي مرضيا عليه من كل من عرفه وعاش سيرته او سمع عن تفرد عمله او اؤلئك الذين تنسموا دربه يسيرون علي خطاه ودروبه الوعرة التي اعزه الله بتيسيرها اكراما لمقصده الخير .

سار علي دربه ثلة من الانقياء الاتقياء تلاميذ شيخ العرب الذين رابطوا حضورا في مشرحة ودمدني ليكملوا المسير ايمانا بان خدمة الموتي علي نهج شيخ العرب هو طريقهم الي الله احتسابا لمرضاته وطمعا في اجره، ورابطوا في القابرحفر القبور ودفن ااموتي يقراءون سورة الملك وترتفع اصواتهم بالاخلاص .

اذكر منهم خالد محمد عبدالله موسي وخضر احمداني ووعيسي حسين وابنه جابر وشيخ فهمي و الشاب الهميم النشط والمتجرد الزاهد بهاء الدين محمد واخوه وزميله علي النهج القويم علي الله شيخ العرب .

وهم يجدون في عملهم يتنسمون خطا مباركة حبرت صفحات التاريخ الانساني بعمل جليل متفرد .

جزي الله شيخ العرب خير الجزاء وادخله جنته مع الابرار والشهداء والصالحين مع من احبه وسار علي نهجه وخلقه ومنهجه سيد الاولين والاخرين نبي الرحمة سيدنا محمد صل الله عليه وسلم ورحم الله من فارق دنيانا الي رحاب الله مغفور له ومرحوم برحمته انشاء الله واعان اؤلئك الذين تتلمذوا علي يديه وساروا علي نهجه وطريقه في خدمة الموتي ..

هذه سيرة رجل اكرمه الله بهذا القبول وترك سنة حسنة اجرها عند الله حتي قيام الساعة …نسأل الله ان تكون لنا في هذه المدرسة دروس وعبر ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى