مقالات الظهيرة

الهندي الريح يكتب… الدبلوماسيـة والبعاتي

لقد تناوشت السفير السوداني في ليبيا كثير من السهام بسبب رده في قناة الجزيرة علي الإعلامي أحمد طه حين قال بأن حميدتي قد مات وإن ظهر بعد موته فهو (بعاتي).

وكلمة (بعاتي) من الكلمات المتداولة والشائعة في السودان ويعرفها الصغير قبل الكبير ومن مترادفات هذه الكلمة في العامية السودانية (تَرَب البِنَيّة) وكلاهما يقصد منه أن ظهور شخص في الحياة الدنيا بعد موته ودفنه.

وبالطبع لا يمكن حدوث ذلك لأن الله حكم بذلك ولن يرجع أحد للحياة بعد موته إلا إذا أذن الله بذلك لإظهار معجزة لرسول كما حدث مع سيدنا موسى في قصة (البقرة) أو سيدنا عيسى الذي كان يحيى الموتى بإذن الله وقد ختم الله تعالى الرسل بسيدنا محمد صل الله عليه وسلم وبالتالي أنتهت المعجزات .

لقد تعرض السيد السفير لتقريع وإستهزاء شديد لم يتعرض له سفير من قبل ونسى الناس مضمون حديثه وركزوا على إسلوبه والطريقة التي وصل بها المعلومة ويرون انها غير دبلوماسية وغير بليغة وأنه كان بالإمكان أن يوصل المعلومه بطريقة أفضل من ذلك .

وأنا أرى عكس ذلك وأعتقد أن السفير كان في قمة الدبلوماسية وقد أوصل الرسالة بمنتهى البلاغة وركز على قوة الرسالة والمضمون أكثر من تركيزه على التنمق وإظهار ملكاته الدبلوماسية والبلاغية لأنه ليس أمام محفل دبلوماسي يتطلب مفردات معينة ومصطلحات محددة .

فهو أمام قناة إخبارية لها جمهور متعطش لسماع الأخبار وليس هم هذا الجمهور تقييم الملكات اللغوية والخطابية الدبلوماسية للمستضافين فضلاً عن أن موضوع عدم ظهور حميدي شغل الناس والكل حريص على معرفة مصير قائد المليشيا الذي أشعل الحرب في السودان لأن معرفة ذلك يترتب عليه أشياء كثيرة خاصة بمصير الحرب في السودان .

وقد عرف علماء اللغة العربية البلاغة بأنها إيصال المعنى الكبير بالفظ البسيط الموجز فقد يكون الحديث في منتهى البلاغة بكلمة واحدة.

وقد تكون الإشارة والإماءة في منتهى البلاغة إن أوصلت المعنى بطريقة واضحة لا لبس فيها وتاريخ البلغاء مليء بمثل هذا ودونكم قصة الخليفة الذي كان قد أرسل أحد أتباعه وأمره أن يطلق زوجة الخليفة بكلمتين فقط فقال لها (كُنْتِ فَبِنتِ).

أو الآخر الذي أمر كاتب الرسائل بأن يكتب رسالة يعزل بها قاضى منطقة (بُقم في فارس) فأرسل كاتب الرسالة خطاب موجز جدا كتب فيه (يا قاضي بقم قد عزلانك فقم) وكثير كثير جدا من الأمثلة .

السفير يعلم أهمية إيراد معلومة موت حميدتي ومدى تأثير ذلك علي الروح المعنوية لجنوده وبالمقابل مدى رفع الروح المعنوية لجنود القوات المسلحة السودانية وكثير من المسؤولين يتهربون من الرد حول هذا السؤال أو يحومون حول الحمى ويَرُدُون بإجابات دبلوماسية حمالة أوجه أما لأنهم لا يملكون المعلومة أو لأن لهم تقديرات معينة.

أما سفير ليبيا فلم تكن له تحفظات معينة وكذلك كانت المعلومة لديه مؤكدة من مصادره الخاصة وواثق منها للدرجة التي قال أنه يتحمل مسؤولية صحة هذا الخبر شخصياً .

دبلوماسية الحرب والأزمات ولغتها تختلف منها في الأحوال الطبيعية حيث أنها تميل الي القوة والحزم والقطعية أكثر من المرونة والتمييع والتنمق ولو أن السفير كان رده دبلوماسياً بليغاً متبطحاً لما اوصل الرسالة بهذه القوة ولما أنتشر رده بهذه الطريقة التي أوصلته شعفات هجر وعلم بها القاصى والداني.

كان يمكن للسيد السفير أن أراد التنمق ولم يُرد إيصال الخبر بهذه القوة أن يرد بكلام في منتهى البلاغة يفيد موت الرجل ولكنه حمال أوجه وغير واضح مثل إن حميتي قد (لَعِقَ إصْبَعَهُ) أو أن حميدتي (طَرَقَتْهُ أمِّ قَشْعَمٍ) أو أن حميتي (وَرَدَ حِيَاضَ غُتيم)، بالله عليكم لو كان رده كذلك كان أوصل رسالته بهذه القوة ؟

الآن وبعد رسالة سفيرنا في ليبيا تأكد موت قائد المليشيا وإنتشر هذا الخبر إنتشار النار في الهشيم وقد ترتب على ذلك أشياء كثيرة جنى منها السودان فوائد جمة لا تقيم بثمن وقد أصبح السؤال عن (البعاتي) هو السؤال الأول الذي يُجابه به مستشاري حميتي من قبل القنوات مما يجعلهم في حالة يرثى لها ويفعلون المستحيل من أجل إثبات أنه حي يرزق وقد يوقعهم الرد في كثير من الأخطاء والحجج الواهية التي تثبت وفاته بالفعل .

إن موت حميدتى حقيقة لا تنتطح فيها عنزان وذلك من خلال الأقوال والتقارير الكثيرة المتواترة ومن خلال عدم ظهوره الحقيقي صورة وصوت لفترة طويلة ومعروف عن الرجل أنه يحب الإعلام ولا يفوت فرصة للظهور وهو أيضاً كقائد يعلم مدى الدفعة المعنوية القوية لجنوده الذين يُقاتِلون التي سوف يحدثها ظهوره .

على قوات الدعم السريع الذين يموتون الآن بالجملة أن يدركوا هذه الحقيقة ويتصرفوا بمقتضاها فإن قائدهم الذي دفعهم لهذه المحرقة في زمة الله وإن نائبه عبدالرحيم دقلو قد فقد عقله وهو هائم على وجهه لا يدري ماذا يفعل .

نشكر السيد سفير السودان في ليبيا ونعتذر له عما أصابه ونأكد أنه كان في قمة الدبلوماسية والقوة والبلاغة والمسؤولية عندما قطع بموت قائد المليشيا وأن أعداء السودان حاولوا أن يصرفوا الناس عن مضمون الخبر وجوهره وجعلوهم يركزوا على الصغائر والقشور .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى