مقالات الظهيرة

إبراهيم شقلاوي يكتب في (وجه الحقيقة)…. الفاشر.. حرب الإقليم وحدود الوعي الوطني

تبدو معركة الفاشر علامة فارقة في مسار الحرب السودانية، بوصفها الحدث الذي كشف وجه الصراع الحقيقي وأعاد تعريف طبيعة الحرب وحدودها. فالميدان هذه المرة لم يكن بين جيش وميليشيا فحسب، بل بين وطنٍ يدافع عن سيادته، ومنظومة إقليمية تسعى لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالحها وأجنداتها.

 

ولعل الطريقة التي أُديرت بها المعركة من تحييد لأنظمة الاتصالات وقطع متقن لخطوط التواصل بين القوات الميدانية للجيش وغرف القيادة والسيطرة، تشير بوضوح إلى أن ما جرى في الفاشر نتاج تخطيط استخباراتي مدعوم بتقنيات طرف ثالث يمتلك أدوات الحرب الإلكترونية ومعرفة دقيقة ببنية المنظومة العسكرية السودانية.

 

هذا التطور يضع الحرب في السودان داخل سياقٍ جديد ، فلم تعد صراعًا داخليًا نشأ عن انقلاب الميليشيا في 15 أبريل 2023، بل تحولت إلى ساحة مواجهة إقليمية مفتوحة تُختبر فيها إرادات الدول ومشروعات النفوذ.

 

فالقوى ذاتها التي خاضت معارك ليبيا واليمن، بأذرعها التمويلية والإعلامية والعسكرية ، تعود اليوم إلى السودان لتعيد إنتاج ذات المعادلة: دولة تُستنزف من الداخل، وفاعلون خارجيون يعيدون رسم حدودها وموازينها بما يضمن مصالحهم ويمنحهم موطئ قدم في قلب إفريقيا وعلى ضفاف البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

 

ومع ذلك يختلف السودان عن تلك التجارب في أنه لم يفقد تماسك مؤسساته الوطنية. فالجيش ما يزال حاضرًا، يحتفظ بعمقه واسناده الشعبي وصلابة عقيدته المهنية، وهو ما يجعله مختلفًا عن النموذج الليبي الذي تفككت فيه الدولة، أو النموذج اليمني الذي تآكل فيه القرار الوطني.

 

لكن هذا التماسك يظل مهددًا ما لم تُقرأ التحولات الجارية بعينٍ سياسية ودبلوماسية لا عسكرية فقط، وما لم يُترجم الوعي الوطني إلى إستراتيجية صلبة وخلاقة تستبق الأخطار وتُدير المشهد بعقل بارد لا بانفعال اللحظة.

 

إن الحرب اليوم تتجاوز البنادق إلى منظومات السيطرة والمعلومة والقرار. فمعركة الفاشر التي شهدت أكثر من 270 هجومًا متتاليًا على المدينة، كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الجيش السوداني على الصمود أمام أدوات الحرب غير التقليدية: من الضغط الإعلامي إلى الاختراق التقني، ومن العزلة الدبلوماسية إلى الحصار الاقتصادي.

 

وهي الأدوات ذاتها التي استخدمها الفاعل الإقليمي في تجارب سابقة لإعادة هندسة التوازنات في ليبيا وسوريا واليمن، عبر تمويل الميليشيات وتوظيف الشعارات الإنسانية ستارًا لمشروعات جيوسياسية ضخمة أفقدت تلك الدول أمنها واستقرارها.

 

وما تفعله الإمارات في السودان اليوم ليس جديدًا من حيث المنهج. فكما موّلت أذرعًا عسكرية في ليبيا لتقويض الدولة المركزية تحت لافتة “محاربة الإرهاب”، وكما دعمت جماعات في اليمن لتقسيم النفوذ تحت شعار “مكافحة الحوثيين”، فإنها اليوم تموّل وتسند مليشيا الدعم السريع في السودان، في محاولة لتأسيس واقعٍ جديد يمنحها السيطرة على الذهب والنفط والثروة الحيوانية والموارد المائية، ويؤمّن لها منفذًا استراتيجيًا على البحر الأحمر.

 

هنا يتضح أن الحرب في السودان لم تعد بين جيشٍ وميليشيا، بل بين مشروعاتٍ إقليميةٍ متضاربة: مشروع يريد إبقاء السودان هشًّا مفتوحًا للاستثمار السياسي والأمني، ومشروع آخر يسعى لعودة الدولة الحرة القادرة على ضبط قرارها الوطني .

 

خطورة المشهد أن هذه المشروعات تُدار تحت غطاء دولي صامت، وأن النظام العالمي الذي كان يُفترض به ردع الانتهاكات أصبح جزءًا من المعادلة عبر تواطؤ المصالح وتوازنات الممرات والموانئ البحرية.

 

هذا المشروع الذي يُدار تحت لافتات “الوساطة” و“العمل الإنساني”، ليس سوى إعادة إنتاجٍ للنموذج الليبي، ولكن على جغرافيا أوسع وأخطر، وأكثر صلابة وخبرة في المقاومة. وفي مواجهة هذا التحدي، تبدو خيارات السودان مفتوحةً لكنها دقيقة الحساب.

 

فزيارة الوفد العسكري المصري الرفيع إلى بورتسودان الخميس برئاسة رئيس هيئة الاركان الفريق احمد فتحي، والتي تزامنت مع سقوط الفاشر، لا يمكن قراءتها خارج سياق التحركات الدفاعية المشتركة بين البلدين.

 

فالقاهرة التي تدرك أن أمنها يبدأ من حدود السودان الجنوبية ترى في انزلاق السودان إلى فوضى الميليشيات تهديدًا مباشرًا لمجالها الحيوي. لذلك بات تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين مطروحًا بقوة، من باب الضرورة الجيوسياسية لحماية الأمن القومي المتكامل للسودان ومصر.

 

في المقابل، تظل تركيا خيارًا إستراتيجيًا آخر متاحًا أمام الخرطوم، لما تملكه من خبرةٍ في دعم الحكومات، دون المساس بسيادتها، كما فعلت في ليبيا حين ساعدت الدولة على استعادة التوازن الميداني دون فرض وصايةٍ سياسية.

 

وعلاوة على ذلك، فإن أنقرة ترتبط بالخرطوم بعلاقاتٍ تاريخيةٍ عميقةٍ ومخزونٍ من الثقة يجعل التعاون الدفاعي والتقني معها مسارًا عمليًا لتقوية القدرات الوطنية دون ارتهان .

 

لكن جوهر الرؤية يجب ألا يكون في الاصطفاف، بل في هندسة التوازن. فالسودان يحتاج إلى أن يصنع معادلته الخاصة التي توفّق بين المدرسة المصرية في الأمن والدبلوماسية الإقليمية والمدرسة التركية في التكنلوجيا و التحديث الدفاعي والتعاون المثمر .

 

ومن خلال هذا التوازن وحده يمكن للسودان أن يستعيد تموضعه وجاهزيته لأسوأ الاحتمالات، ويحمي أمنه وقراره السيادي في محيط تتنازعه مشاريع الهيمنة الاستعمارية الجديدة. التي لأتعرف الا حسابات المصالح.

 

لقد أعادت معركة الفاشر بحسب خبراء تعريف الحرب في السودان، وكشفت أن الوعي الوطني هو خط الدفاع الأول قبل أي سلاح. فالحروب لا تُكسب في الميدان فحسب، بل في الذاكرة، وفي قدرة الأمم على تمييز الأصدقاء من الطامعين.

 

والعالم الذي صمت على الفظائع في دارفور هو ذاته الذي خذل شعوبًا أخرى في ليبيا واليمن وفلسطين. اليوم يُختبر مرةً أخرى في الفاشر، حيث تقف الإنسانية والاخلاق على المحك، وينكشف زيف الخطابات الدولية التي لا تتحرك إلا على وقع المصالح لا المبادئ.

 

إن السودان اليوم يخوض معركةً تتجاوز الجغرافيا إلى معركة الوجود ذاته معركة تُدار بالوعي بقدر ما تُدار بالسلاح، وتُقاس نتائجها بقدرة السودانيين على تحويل المأساة إلى لحظة وعيٍ وطنيٍ جديد. فحين تُصبح الفاشر مرآةً للضمير الإنساني، يتحول الدم إلى خطاب، والكارثة إلى بوصلة تحدد من يقف مع السودان ومن يقف ضده .

 

كذلك، فإن فرصة السودان الحقيقية للخروج من المأزق لا تكمن في تسوية تُفرض من الخارج، بل في دعم القرار الوطني وخلق توازنٍ إقليميٍ جديد يقوم على الندية لا التبعية.

 

فكل التجارب السابقة أثبتت أن الدول التي استعادت قرارها الوطني ،كما في إثيوبيا بعد حرب التقراي ، أو تشاد بعد الانقلابات المتتابعة ، استطاعت أن تعيد تموضعها الإقليمي رغم ضعفها العسكري.

 

المطلوب إذن، إلى جانب هندسة التحالفات الممكنة والمنتجة ، مشروع سياسي وطني يعيد تعريف السودان كفاعل لا كساحة نفوذ، ويحوّل الخسارة في الفاشر إلى نقطة انطلاقٍ لبناء سردية وطنية جديدة توازن بين مقاومة العدوان وبناء الدولة السودانية الفاعلة.

 

وبحسب #وجه_الحقيقة، هذه هي حدود الوعي الوطني التي تختبرها الحرب. فمن رحم الفوضى يولد الوعي، وبالإرادة وحسن التدبير تنبعث الأمم التي تعرف طريقها. والسودان، كما كان عبر تاريخه، لن يُهزم ما دام وعيه حيًا، وذاكرته مفتوحة، وقراره بيده، وشعبه مدركًا لخطورة المرحلة وتحدياتها.

 

دمتم بخيرٍ وعافية.

السبت 1 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى