مقالات الظهيرة

إبراهيم شقلاوي يكتب في (وجه الحقيقة)…. السودان بين البودكاست والجزيرة مباشر ..!

المشهد الوطني في بلادنا يفتقر إلى حضور النخب الفاعلة، التي بدت في حالة من التراجع والتوهان ، بينما تهيمن منصات البودكاست وقناة “الجزيرة مباشر” على الفضاء الإعلامي بمحتوى متباين، يختلف في جودته وعمقه.

كما أن هناك فراغًا واضحًا نتيجة غياب الصالونات الفكرية والسياسية التي كانت في يوم من الأيام منابر وطنية تأخذ على عاتقها توجيه الرأي العام وصياغة الرؤى المستنيرة و المتبصرة.

 

في هذا المقال نحاول مناقشة هذه الأفكار، أزمة الحوار الوطني في السودان، وتاريخ الصالونات السياسية، ونقترح خارطة طريق لإعادة بناء الفضاء العام بعيدًا عن الاستقطاب وضجيج الشعارات.

 

ومن المهم التذكير أن هذه المنابر ليست وليدة العقد الأخير، بل تعود جذورها إلى ما قبل الاستقلال 1956، حيث كانت الصالونات الفكرية تمثل تقليدًا أصيلًا في الحياة السياسية السودانية. وُجدت مثل هذه الفضاءات منذ خمسينيات القرن الماضي، فاحتضنت النقاشات حول الاستقلال، والديمقراطية، والسيادة الوطنية، ورافقت محطات التحول السياسي الكبرى في البلاد. حيث شكّلت لبنات أساسية في تكوين الوعي العام للسودانين .

 

 

هذه المنابر اليوم قد غابت أو غُيّبت، تاركة فراغًا واسعًا في فضاء الحوار الوطني، حلّت محلّه منصات بديلة، أبرزها البودكاست، التي رغم ما توفره من مساحة سردية مهمة، إلا أنها – في أغلبها – تفتقر إلى العمق التحليلي، وتركّز على استعادة التاريخ أكثر من تحليل اللحظة السياسية الراهنة وتعقيداتها البنيوية، ما يقلل من قدرتها على التأثير في الرأي العام أو إنتاج مقاربات سياسية تمس جذور الأزمة الوطنية.

 

كما أن قناة الجزيرة مباشر، ورغم محاولاتها الجادة لفتح نوافذ للنقاش السوداني في ذروة الأحداث الساخنة، إلا أن سياساتها التحريرية، ومحدودية الوقت، وانتقاء الضيوف، إضافة إلى خضوع الحوارات لأسئلة معدّة سلفًا، جميعها عوامل حدّت من فاعليتها في الوصول إلى تفاهمات أو إنتاج مقاربات بين الفرقاء. فالتحكم في بنية النقاش والزمن والمحتوى، يجعل من الصعب على هذه البرامج أن تلعب دور المنابر الوطنية الحرة.

 

اليوم يقف السودان عند مفترق طرق، وسط حرب وجودية وصراع صفري بين مكونات النخبة السياسية، يتّسم بالسطحية والتمترس خلف شعارات جوفاء بلا أفق واضح أو مشروع وطني جامع. وفي مثل هذه اللحظات الحرجة، تزداد الحاجة إلى إحياء المنابر التي وُلدت من رحم العقل الوطني المنتبه، بعيدًا عن الاستقطاب والرؤى الإقصائية.

 

ومثالًا على ذلك، فإن هناك العديد من القضايا المصيرية التي تستوجب من النخب السودانية، سواء في الداخل أو في المهجر، ومن الفاعلين السياسيين، بلورة رؤى واضحة ومتماسكة بشأنها. من أبرز هذه القضايا، ما يتعلق بمواقف الأطراف السودانية تجاه “الرباعية الدولية”، تلك الواجهة التي تمثل تحالف ظرفي تجمعه المصالح ، والتي باتت تمثل مجموعة ضغط ذات تأثير متزايد على مسار الأزمة السودانية، سياسيًا وإنسانيًا.

 

إن عقد مثل هذه النقاشات، بات ضرورة وطنية. فالمقصد ليس إدارة الخلاف فحسب، بل تأسيس لمقاربات عقلانية جديدة تفضي إلى حلول واقعية تعبّر عن تطلعات السودانيين، وتكسر حالة الانسداد السياسي والوطني الراهنة.

 

وقد عرف السودان نماذج من المنتديات التي جسّدت هذا الدور، مثل منتدى صحيفة التيار “كباية شاي” ، صالون اللواء عبدالله صافي النور، منتدى طيبة برس، ومنبر عنقرة، وهي تجارب وطنية جمعت بين النخبة والإعلام والرأي العام، وأسهمت في ترسيخ ثقافة الحوار . ففي منتدى “التيار”، طُرحت أسئلة جريئة أمام السفير البريطاني عام 2018 حول آثار السودان لدي بريطانية ، وهو ما يعكس جرأة المنابر الوطنية حين تكون حرة ومسؤولة.

 

أما صالون صافي النور فكان بوتقة فكرية استثنائية جمعت عقولًا من مختلف التيارات السياسية، وخلقت مناخًا أسبوعيًا للتفكير الجماعي في قضايا الوطن، بينما حافظ صالون الأمير جمال عنقرة على استمراريته وتأثيره في دعم قضايا الصحفيين وقادة الرأي وعزز اللحمة الوطنية.

 

إن غياب هذه المنابر لا يعني فقط تراجع الوعي السياسي، بل يكشف أيضًا هشاشة البدائل التي حلت محلها. فالبودكاست ، رغم بعض التجارب الجيدة، لا يزال عاجزًا عن أداء الدور الحيوي الذي كانت تلعبه المنتديات التقليدية، بسبب افتقاره إلى الانفتاح على النخب المؤثرة، واعتماده على السرد التوثيقي أكثر من التحليل البنيوي. وكذلك الحال مع حوارات الجزيرة مباشر التي تظل محكومة بضوابط المؤسسة لا بفضاء الحريات.

 

وعليه، فإن عودة المنتديات الوطنية الفاعلة والمؤثرة إلى المشهد السوداني تعتبر ضرورة سياسية وفكرية. فالنخب السودانية حين تمنح المساحة والدعم، تملك القدرة على إنتاج مبادرات ناضجة تلامس قضايا الحرب والسلام، والنسيج الاجتماعي، والتعافي الوطني.

 

بحسب #وجه_الحقيقة، فإن السودان لن يخرج من أزماته إلا عبر حوار وطني جاد يبدأ من هذه المساحات الحرة التي تضمن استعادة الفضاء العام كمجال مشترك للتفكير والتخطيط وصناعة المستقبل، بعيدًا عن الضجيج والاصطفافات. فحين نعيد للكلمة مكانها، وللحوار هيبته، نكون قد بدأنا أولى خطوات التعافي، نحو دولةٍ قوامها التعدد والعدالة والمواطنة.

 

دمتم بخير وعافية.

الأحد 12 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى