مقالات الظهيرة

آثَار الحرب السُّودانية على الالتزامات القانُونية

الظهيرة- أحْمَد حَامِد الجَبرَاويّ المُحَامِي:

تُعدّ العقود من مقوِّمات الحياة وعماد نهضتها وتطوّرها وهي منشأ وأساس العلاقات الناشئة بين الأفراد والمجتمعات، قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ”، المَائِدَة:1 فهذا أمرٌ بالوفاء بالعقود تبرّعاً أو معاوضةً.

*وقد شدّدت الشّريعة في التّحذير من نقض العهود كما في قوله تعالى :”وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا” النّحْل٩٢

بين الأصل والطّارئ:

والأصل أنّ العقود تنشأ في ظلّ ظروف طبيعيّة بيد أنّ الشّريعة احتاطت للمتعاقدين بمرونة تتسق والظّروف الطّارئة والاستثنائية التى تنشأ أثناء تنفيذ بنود العقد متى كان مستمرَّ النّفاذ بين أطرافه.

ومن ذلك ظروف هذه الحرب الدائرة في عدد من ولايات السّودان والتي ترتبت عليها أثار كبيرةوتبعات جسيمة سواء في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والسياسي وغيرها من جوانب الحياة المتعددة بل وامتدت هذه الآثار للولايات الآمنة.

آثار ومآلات:

ترى ما هي مآلات الالتزامات العقدية من بيوع وعقود والتزامات عمل وايجارات و شراكات ودين ومرابحة وسلم وغيرها مما نشأ بين أطراف تلك الالتزامات.

والحرب ظرف طارئ لا يد لأطراف التعاقد به وقد أتت هذه الحرب على كل شئ تدميراً للبنية التحتيّة وإهلاكاً للحرث والنّسل وتهجيراً للمواطنين وتعسيرا لحركة الحياة وتجميدا لحركة المال وانسياب الموارد.

وتبادل المنافع مما عطّل الحياة وأضرّ برؤوس الأموال وعوّق مسيرة الإنتاج وأوقف الصادر والوارد كما أدّت الحرب إلى تعطيل الكثير من العقود والاتّفافات من عمل وايجارات وشراكات.

ومقاولات وتوريد وغيرها كما أدت إلى انتشار البطالة والنزوح وتزايد الفقر والحاجة الأمر الذي سيفرز أنشطة إجرامية من سرقة وتعامل في الممنوع من مخدرات وأموال منهوبة ومسروقة وبيع الجسد (والحرة لا تأكل بثدييها) وغيرها من الآثار .

الاستحالة والظروف الطارئة:

إنّ المشرّع السّوداني اعتمد نظريّة الاستحالة تأثراً بالنّظام الانجلوسكسوني وقد نصّ عليها في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م المادة 117 بالاتى:

(1/ إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن فى الوسع توقعها وترتب على حدوثها أنّ تنفيذ الالتزام التّعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للمحكمة تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تردّ الالتزام المرهق إلى الحدّ المعقول ويقع باطلا كلّ اتّفاق على خلاف ذلك).

كما أنّه لم يُعرّف الظرف الطارئ وإنّما تركه للقضاء ولفقهاء القانون امعانا في إطلاق يد القضاء لاتساع الرؤى وخوفا من تضييق النصّ على الحالات المنصوص عليها وقد عرّفت محكمة النقض المصرية (نقض ١٩٦٣ راجع العقود الادارية للدكتور محمد أبو العينين) الحادث الطارئ بأنه { الحادث الاستثنائي وهو الذي يشذ عن المجري المعتاد للأمور فيخرج عن الأصل الذي ألفهِ الناس بما يجعلهُ نادر الوقوع.

إن ثبت وقوعهِ في أحوال متباعدة أو نادرة غير رتيبة لا ينفي عنه وصف الاستثنائية فالحرب يتكرر وقوعها على مر العصور ولكنها لا تتسم بالرتابة الدورية أو التلاحق حتي تصبح أمراً معتاداً لدّي الناس يرتبون عليه).

سماحة الشّريعة :

ولعلّ الشّريعة السّمحاء كانت سبّاقة في تأسيس مقاصد أحكامها على استيعاب الضّرورات الملجئة إلى إعذار النّاس لبعضهم حال وقوعها وتيسير تنفيذ بنود اتفاقاتهم.

لسبب لا دخل لإراداتهم العقدية الأولى فيه، وذلك تطبيقاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار” الموطّأ والمستدرك للحاكم وصححه، وحديث: “أمرَ رسول اللهِ بوضعِ الجَوائحِ”رواه مسلم والقواعد الفقهية القائلة : ” الضرر يزال “، ” الضّرورات تبيح المحظورات “، “درء المفاسد أولي من جلب المنافع ” وأخيراً ” الضرر الأشدّ يزال بالضرر الأخفّ”.

وجاءت قرارات المجامع الفقهية على هذا النحو فقد نص المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الخامسة عام 1404هـ بقوله:( فيتضح من ذلك أنّ الخسارة المعتادة في تقلّبات التّجارة.

لا تأثير لها علي العقود لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها التي لاتنفكّ عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا، بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدابيرا استثنائية ).

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مختصر الفتاوى :”أن من استأجر ماتكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلّة الزبون، أو لخوف، أو حرب أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة” ص: 376.

استيفاء الحقوق :

اذا انتهت الحرب ستشتدّ الحاجة إلى استيفاء المتعاقدين لحقوقهم وذلك بطلبها مباشرة من الطرف الآخر والا لجأوا للطرق الأخرى مما يعني مثول الكثير من أفراد المجتمع أمام المحاكم لاستيفاء تلك الحقوق والالتزامات وستزداد الدّعاوى بصورة كبيرة وربّما مزعجة في ظلّ ظروف معقّدة ومطالبات متعددة .

توصيات مهمة:
وعليه ونظرا لذلك الأمر ونتيجة لظروف الحرب وآثارها ومآلاتها الصّعبة على الجميع بمقادير متفاوتة لابدّ من الأمور الآتية :

1/إنشاء صندوق قومي بقانون بغية تعويض الضّحايا والمتضرّرين من أموال المتمرُدين المجمّدة بقرارات الدّولة ومن المنح والهبات من أصدقاء السودان ومن الصناديق المانحة وتبرعات المنظمات الدولية ومن منظومات العون الانساني والخيري العالمية أو الاقليمية وغيرها.

٢/اتخاذ التّراتيب وسنّ التوجيهات الإدارية واللوائح من الدولة ووزاراتها المختصة لمعالجة ودرء الآثار المترتبة على الحرب بدءاً من مجلس السّيادة والوزراء ومعالي رئيس القضاء ومحافظ بنك السّودان كلّ فيما يتصل بما يليه من مهام واختصاصات.

٣/أهمية تصدِّي المجتمع وقيام لجان الصّلح ومنظومات التسوية والسِّلم الأهلي بنشر ثقافة السّلام وإجراء الصّلح والعفو داخل مجتمعات الأحياء والمدن والفُرقان وتفعيل دور المجتمع المحلي دفعا لهذا الأمر وتبنيه وانجاحه.

٤/أهمية احتساب ما أصابنا من جرّاء هذه الحرب والرّضا التّام بذلك فهذا هو جوهر الإيمان.

٥/اعتماد شعيرة العفو والتسامح بين المتعاقدين اذ أنّه سبب تسمو به النفوس ويزداد أهله عزّاً كما دلّت علي ذلك النصوص(وما ازداد عبد بعفوٍّ الّا عزّاً) رواه مسلم.

٦/الإنظار والتساهل فى طلب الوفاء من صاحب الالتزام حال عدم قيامه بالوفاء كلاً أو جزءً (مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا أوْ وَضَعَ لَهُ، أظلَّهُ اللَّه يَوْمَ القِيامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ). الترمذى وصححه.

٧/اقتضاء الحقوق بميزان العدل مراعاة للأحوال وعسرها وإسقاطها على الدعاوى ، وهو أمر ينهض به القضاء المستنير والذى يوازن بين الالتزامات وما يعتورها فى بيئة المحاكم التي تكتسي بحلل العدل لتصبح بيئةٌ جاذبة للعمل والتنمية والانتاج و الاستثمار ومعززة للثقة بين أطراف العقود.

وذلك منعا لاهتزاز مراكز المال والعمل والخدمات وخروج رؤوس الأموال الوطنية و الأجنبية من سوق العمل بالبلاد ، وخوفاً من هروب أرباب العمل فيها إلى بيئاتٍ استثماريةٍ أكثر ثقةً وأماناً و عدالةً ، ومن المناسب ان نجدّد ونؤكد أنّ قضاءنا لا يزال مهنياً وعادلاً ومستوعباً لتلك التغيرات وإنّما يطلب المزيد منه.

٨/عدم الشطط فى المطالبة بالتّعويض متى ما وهنت بيّنة الطّرف الملتزم وعدم رجحانها فالجوائح ينبغى أن تستخرج عند أطراف العقد أفضل ما عندهم من المعاملة الحسنة وروعة التجاوز.

٩/سعة اجتهاد القضاة الفضلاء في اعمال فقه السعة واليسر بين المتعاقدين وقد احتوشتهم الحرب وألمّتْ بهم ولم تترك لهم منفذا ولا مهربا ممّا يعزّز من الإنظار والإمهال والتيسير والعفو والصلح وغيرها من المفردات التي يحتاجها المجتمع فأول ما يكون التيسير عند الضيق.

كما قال الأصوليون: (إذا ضاق الأمر اتسع) و(المشقّة تجلب التّيسير) كما عليهم تعديل العقود بما يتسق وحالة أطرافها سيّما العقود ذات الآجال الطويلة تماشيا مع تبدّل الأسعار وتغيّر مراكز المتعاقدين بظرف الحرب وغيرها والتركيز على قضاء الصلح والتسوية بين الأطراف حفاظا على مراكز الأطراف القانونية وغيرها من التدابير ذات الصّلة.

١٠/الدّور المجتمعى المتعاظم لأصحاب الأموال ومنظمات المجتمع ومكوناته المتعددة فى بذل الجهد الانسانى الخيري لمقابلة الآثار الاقتصادية والاجتماعية و التى تتأثر بها فئات عديدة من المجتمع خاصة العمالة الضعيفة وصغار المهنيين ومقدِّمي الخدمة ومن فى حكمهم وذلك بتشجيع التبرّع والتّصدّق والإحسان .

وبعد:

فهذه قصاصات أرجو أن تفيد في موضوعها قصدت بها تيسير بعض المفاهيم قانونية وشحذا للقيم الأخلاقية في مجتمعنا سائلا الله أن يرفع عنا هذا البلاء ويجعل عاقبة أمرنا نصرا وغُنما ونماءً وما ذلك على الله بعزيز .

وَالحمدُلله ربّ العَالمينَ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى