سوشال ميديا

في حوار شامل مع المدير التنفيذي لمحلية مدني الكبرى الأستاذ عادل الخطيب: من أنقاض الحرب إلى بوابة الأمل.. قيادة محلية مدني تكتب ملحمة التعافي  وبالتعاون والتصميم.. إنجازات ملموسة في مواجهة التحديات الاستثنائية (1-2)

“رؤية استراتيجية متكاملة تنتشل المدينة من تداعيات المرحلة الصعبة

“من العجز إلى الاكتفاء.. مسيرة إعادة بناء القدرات والبنى التحتية”

مقدمة الحوار :-

يأتي هذا الحوار الشامل مع المدير التنفيذي لمحلية مدني الكبرى في وقت تشهد فيه المدينة مرحلة تاريخية حاسمة في مسيرة التعافي وإعادة الإعمار. يمثل هذا الحوار وثيقة مهمة تسجل ملحمة صمود مجتمعية تواجه تداعيات المرحلة الصعبة بكل شجاعة وتصميم.

تتجلى في ثنايا هذا الحوار قصة كفاح متعددة الأبعاد، تتراوح بين التحديات الإدارية والخدمية والصحية والتعليمية والأمنية. وتكشف الأسئلة والأجوبة عن رؤية استراتيجية متكاملة تقوم على أسس راسخة من التخطيط العلمي والتنفيذ العملي، مع الحفاظ على التوازن بين المعالجات العاجلة والتخطيط المستدام.

حاوره: تاج السر ود الخير

“سعادة المدير التنفيذي عادل محمد الحسن الخطيب،مسيرتكم الإدارية التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود تشبه خريطة طريق للحكم المحلي في ولاية الجزيرة. كيف صقلت هذه الرحلة المليئة بالتنقل بين الوحدات والمحليات من رؤيتكم لإدارة المحليات، وما هو الدرس الأهم الذي خرجتم به من هذه التجربة الثرة؟”

“شكراً لهذا السؤال العميق. بالفعل، امتدت مسيرتي في سلك الضباط الإداريين منذ عام ١٩٩١م، متنقلاً بين عدد من ولايات السودان، بدءاً من الخرطوم، مروراً بولاية النيل الأزرق، وصولاً إلى ولاية الجزيرة التي شكلت محطة رئيسية في مشواري.

تدرجت في العمل عبر معظم وحدات الولاية ومحلياتها، وتحديداً في محلية مدني الكبرى، حيث شغلت مناصب في مختلف إداراتها. بدأت رحلتي في وحدة مدني شرق، ثم تدرجت في المسؤوليات داخل المحلية حتى وصلت إلى منصب المدير التنفيذي لها لأول مرة بين عامي ٢٠١٤ و ٢٠١٥.

لم تكن الرحلة مقتصرة على محلية مدني، فقد شملت مسؤولياتي أيضاً قيادة محلية جنوب الجزيرة كمدير تنفيذي لمدة ثلاث سنوات، قبل أن أعود إلى دائرة صنع القرار على مستوى الولاية، حيث توليت منصب الأمين العام لحكومة ولاية الجزيرة، ثم العمل في ديوان الحكم المحلي.

أخيراً، عدت مرة أخرى إلى حيث بدأت التحدي الأكبر، لأتولى قيادة محلية مدني الكبرى للمرة الثانية كمدير تنفيذي. والحمد لله، منحتني هذه المسيرة الممتدة تجربة ثرية ومتعمقة، أعتز بها، جعلتني أتقن أدق تفاصيل العمل الإداري على مستوى ولاية الجزيرة، وفي محلية مدني الكبرى على وجه الخصوص.”

“سعادة المدير، في ظل ظروف استثنائية ونقص حاد في الإمكانيات، كيف استطعتم تحويل تحدي إعادة إحياء مدينة مدني إلى واقع ملموس، وما الفلسفة التي اعتمدتم عليها لتحريك هذه الجهود الجبارة؟”

“واجهنا تحديًا ضخمًا يتمثل في إعادة الحياة إلى مدينة مدني بعد التحرير، بتخطيط واضح وبرؤية طموحة للارتقاء بالأسواق والنظافة كأولوية مطلقة.

صحيح أن التحدي كان جسيمًا – حيث افتقرنا إلى الآليات الكافية، وواجهنا شحًا في الميزانية، ونقصًا في الكوادر البشرية – لكننا قبلنا هذا التحدي برحابة صدر، واضعين نصب أعيننا هدفًا واحدًا: إعادة كل مرافق مدني إلى حالة أفضل مما كانت عليه قبل الحرب.

كان هاجسنا الأول هو إحياء الأسواق، باعتبارها العامل الرئيسي الذي يشجع المواطن على العودة الطوعية واستئناف حياته الطبيعية. انطلقنا بعزيمة صلبة، مبتدئين بحملات نظافة الشوارع الرئيسية. وبجهود مضنية، تمكنا من استعادة ثلاث عربات نفايات تابعة للمحلية كانت قد خرجت أثناء الحرب من الولاية، وجلبناها من ولايتي القضارف وكسلا.

شكلت هذه العربات نواة عملنا، وركزنا جهودها على تنظيف الشوارع الرئيسية والأسواق لتمهيد الطريق لعودة آمنة وكريمة للمواطنين. ولم يكن عملنا منعزلاً، فسرعان ما انضم إلينا قطاع عريض من أبناء المجتمع: متطوعون مخلصون، ومبادرات فردية وجماعية، إضافة إلى دعم حقيقي من الغرفة التجارية، وتجار الجملة والقطاعي، ونقابات المواصلات مثل موقف أمجاد والموقف العام. قدموا جميعًا دعوة مادية وجسدية كان لها الأثر الأكبر في تسريع وتيرة العمل.

والحمد لله، لم نستغرق وقتًا طويلاً حتى بدأت معالم المدينة في العودة تدريجيًا. استهدفنا تنظيف الأسواق ومواقف المواصلات بشكل مكثف، مما أهلنا لاستقبال أعداد كبيرة من النازحين العائدين إلى ديارهم. لقد سعينا – وبتوفيق من الله – إلى ‘تطبيع’ الحياة من جديد في مدني، ربما ليس بالصورة المثلى التي نحلم بها، ولكن بالصورة التي تمكن المواطن من بداية حياة جديدة، ويشاركنا معًا في إعادة بناء مدنيته من الصفر.

لم تخلُ رحلتنا من صعوبات وإخفاقات، ولكن الإنجاز – بحمد الله – كان حليفنا. بتضافر جهود الجميع، وتلاحم أراء الناس ومبادراتهم، استطعنا أن نسير قدمًا نحو الأمام.”

“كيف استطعتم تحويل أزمة خريف 2025، بمحدودية الإمكانيات وتراكم إهمال سنتين، إلى قصة نجاح في إدارة الأزمة والتعامل مع الطوارئ، خاصة مع التحدي الصحي الإضافي لمكافحة الأمراض المنقولة بالمياه؟”

الخريف لم يكن مجرد موسم أمطار، بل كان اختباراً حقيقياً لمرونة المدينة وقدرتها على النهوض. واجهت محلية مدني الكبرى تحديًا مركباً يتمثل في شبكة مصارف مهملة منذ عامين، وإمكانيات محدودة، وتحدٍ صحي طارئ مع انتشار حمى الضنك والملاريا.

الاستجابة لهذا التحدي اعتمدت على خطة متكاملة ارتكزت على عدة محاور متوازية. انطلق العمل بالاعتماد على العمالة اليدوية في فتح المصارف الفرعية كحل سريع وفعال. لم يكن هذا كافياً، فجاءت الدفعة القوية من خلال الدعم المباشر من حكومة الولاية، حيث قدم السيد الوالي دعماً مالياً مكنّ المحلية من استئجار آليات متخصصة.

لكن النقلة النوعية الحقيقية تمثلت في الشراكة الاستراتيجية مع وزارة التخطيط العمراني، التي وفرت آليتي “باكلودر” متخصصتين لتطهير المصارف الرئيسية الكبيرة، بينما تكفلت المحلية بنقل المخلفات وإزالة الرواسب. هذا التعاون الميداني المباشر أسفر عن تحقيق إنجاز تجاوز سبعين بالمائة من مستهدفات الخطة قبل بدء موسم الأمطار.

لم يكن التحدي الهندسي هو الوحيد، بل برز تحدٍ صحي خطير مع انتشار حمى الضنك والملاريا. ولهذا تحول مصرف “شندي فوق” – أحد أكبر المصارف المسببة للمشاكل – إلى بؤرة للعمل العاجل. وبالتعاون مع غرفة طوارئ الخريف، تم توفير كراكة متخصصة لتطهير هذا المصرف بشكل كامل، كإجراء استباقي للقضاء على بؤر توالد البعوض ونواقل الأمراض.

واجهت العملية تحديات تقنية في مناطق محددة مثل شارع النيل، حيث استلزم الأمر عملاً مستمراً لضمان تصريف المياه رغم الارتفاع الكبير في منسوبها. كما تم تخصيص جهود مكثفة للمناطق المعروفة تاريخياً بمشاكل الصرف مثل مدني جنوب والمنيرة والمزاد و114.

الحصيلة النهائية كانت نجاحاً ملموساً في إدارة الأزمة، حيث تحول التحدي إلى قصة تعاون بين كل الأطراف: المحلية، والوزارات، والمجتمع. ورغم كل الصعوبات، استطاعت المحلية تحقيق مستوى مشرف من الجاهزية لموسم الخريف، مع وضع أسس متينة للتعامل مع المواسم القادمة بخطط أكثر تطوراً واستدامة.

“في ظل الاكتظاظ غير المسبوق والضغوط الخدمية التي تواجهها أسواق ود مدني بعد العودة، ما هي استراتيجيتكم المتكاملة لإعادة تنظيم الأسواق ومواقف المواصلات، وكيف توازنون بين المعالجات العاجلة والتخطيط المستدام لتحقيق نقلة نوعية في الخدمات البلدية؟”

تواجه إدارة المحلية تحديًا استثنائيًا في إعادة بناء منظومة الأسواق والخدمات بعد العودة التدريجية للحياة الطبيعية. فبعد انقطاع دام لعامين بسبب الظروف الأمنية، يعمل الفريق الإداري الحالي بجهود مضاعفة لتعويض فترات التوقف رغم النقص الملحوظ في الكوادر الفنية والضباط الإداريين.

في قطاع الأسواق، لا تخفي الإدارة عدم رضاها عن الوضع الحالي رغم كل الجهود المبذولة. فالأسواق تشهد اكتظاظًا غير مسبوق ناتج عن الانتشار الكثيف للباعة الجائلين والعروض الأرضية (الفريشة)، فضلاً عن العودة السريعة لأعداد كبيرة من المواطنين والنازحين الذين يضيفون ضغطًا جديدًا على البنية التحتية.

للتغلب على هذه التحديات، تتبنى الإدارة رؤية متكاملة ترتكز على عدة محاور. ففي مجال النظافة، تسعى لتأمين عشرين عربة نقل صغيرة بالشراكة مع شركة جياد، من المقرر أن تبدأ عملها مع مطلع العام القادم. كما تعمل على إحياء الأسواق الفرعية في الأحياء السكنية لإعادة توزيع الحركة التجارية وتفريغ الضغط عن السوق الرئيسي.

أما على صعيد التنظيم، فتدرس الإدارة إعادة توزيع مواقف المواصلات التي تساهم في زيادة الازدحام بسبب قربها المباشر من النطاق التجاري، حيث تبحث نقله إلى مواقع بديلة لتخفيف الضغط.

تمثل هذه الإجراءات خطة متكاملة تهدف إلى تحويل التحديات إلى فرص حقيقية، تجمع بين معالجة الوضع الراهن وبناء نموذج مستدام لإدارة المدينة في مرحلة إعادة الإعمار، معتمدة على تضافر الجهود بين مختلف القطاعات والمجتمع المحلي.

“في خضم التحديات الكبيرة التي واجهت إعادة إعمار المدينة، كيف تقيمون دور المبادرات المجتمعية والمواطن في تسريع وتيرة التعافي، وما حجم التأثير الذي أحدثته هذه الشراكة المجتمعية على أرض الواقع؟”

“لا يمكن لأي حديث عن إنجازات المدينة أن يكتمل دون الإشادة بالنسيج المجتمعي المتين الذي شكل دعامة أساسية في مسيرة التعافي. لقد قدم المجتمع المحلي في مدني نموذجاً ملهماً للتكاتف، حيث تدفقت مبادرات المواطنين والمنظمات بكرم نادر.

لم يكن هذا الدعم مقتصراً على الجانب المادي فحسب، بل شمل أيضاً العطاء الفكري من خلال الآراء والمشورات القيمة التي ساعدتنا في تذليل الكثير من الصعاب. وكان لمنظمات العون الإنساني دور محوري في تعزيز جهودنا، حيث قدموا دعماً شاملاً في مجالات الغذاء والمرافق الصحية وتأهيل الأسواق.

بكل صدق وموضوعية، أؤكد أن ما تحقق من إنجازات في مجالات مواجهة آثار الخريف، وتجميل المدينة، وإعادة تأهيل مرافقها الحيوية من شارع النيل إلى المراكز الصحية والمنشآت الرياضية والثقافية، لم يكن ليتحقق بهذه السرعة والكفاءة لولا هذه اليد الممدودة من أبناء مدني الأوفياء.

إنهم بحق مواطنون غيورون على مدينتهم، عازمون على إعادتها أكثر جمالاً وازدهاراً مما كانت عليه. لذا فإننا نوجه لهم ولشركائنا في العمل الإنساني صوت شكر عالٍ وامتنان عميق، وهم لا يزالون إلى جانبنا يواصلون العطاء في كل المجالات، ممثلين شراكة حقيقية تثبت أن إرادة المجتمع أقوى من أي تحدٍ.”

بعد أن فقدت الشؤون الصحية في محلية مدني كل إمكانياتها خلال الحرب، كيف استطعتم إعادة بناء المنظومة الصحية من الصفر، وما حجم التحدي الذي واجهتموه في مواجهة الأمراض المنقولة مثل الملاريا وحمى الضنك؟

واجهت الشؤون الصحية في محلية مدني تحديًا وجوديًا بعد أن دمرت الحرب بالكامل بنيتها التحتية، حيث فقدت جميع آلياتها وطلمبات الرش سواء تلك المثبتة على المركبات أو المحمولة على الأكتاف. وجدنا أنفسنا أمام واقع صعب يتطلب إعادة بناء كل شيء من البداية في وقت كنا نواجه فيه تحدي موسم الخريف وتنظيم الأسواق.

كان ضروريًا علينا أن نعمل بسرعة لاستعادة قدرات الشؤون الصحية لتحمل جزءًا من الأعباء الملقاة على عاتق المحلية. انطلقنا من خلال عمل مشترك مع وزارة الصحة وأمانة الحكومة التي قدمت دعماً مهماً في المراحل الأولى، ثم تدخلت المنظمات الإنسانية لتمنحنا دفعة قوية من خلال توفير مضخات الرش اليدوية والمحمولة.

استمر هذا العمل دون توقف حتى تمكنا من تجميع مجموعة من المعدات تتجاوز ست آلات تحمل على المركبات وعشرين طلمبة محمولة على الأكتاف. لم نكتفِ بتجميع المعدات، بل حولناها إلى أدوات فعالة في معركة حماية الصحة العامة، حيث نفذت إدارة الشؤون الصحية اثنتي عشرة حملة رش شاملة لمختلف أحياء المدينة.

واجهنا تحديًا صحيًا غير مسبوق بظهور أمراض غير معتادة مثل حمى الضنك التي لم تكن معروفة من قبل في المنطقة، إلى جانب ارتفاع حاد في حالات الملاريا. كان العبء ثقيلاً، لكن بتوفيق من الله ثم بدعم الجهات الشريكة استطعنا تحسين المؤشرات الصحية بشكل ملحوظ.

جاء الدعم من جهات متعددة شملت التأمين الصحي ووزارة الصحة الاتحادية ومنظمات المجتمع المدني ومبادرات المحسنين، مما ساعد في بناء نظام ترصدي فعال أصبح قادراً على تحديد بؤر الأمراض واستهدافها بدقة. ولا يزال الدعم مستمراً، حيث تبرع مجلس السيادة بمبالغ مالية مهمة لتكثيف جهود مكافحة نواقل الأمراض، وهي خطوة ستسهم بشكل كبير في تعزيز القدرات الصحية ليس لمحلية مدني فحسب، بل لولاية الجزيرة بأكملها.

الحمد لله، وبفضل الجهود المتواصلة لإخواننا في الشؤون الصحية الذين بذلوا جهوداً استثنائية، استطعنا الوصول إلى مرحلة يمكن فيها القول بأننا استعدنا السيطرة على الأمراض التي انتشرت خلال الفترة السابقة، ونواصل العمل لتحقيق المزيد من الإنجازات في مجال الصحة العامة.

(نواصل)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى