إيصالي: توحيد الخزانة ورقمنة تحصيل إيرادات الدولة لشفافية وكفاءة أعلى
الظهيرة – تاج السر ود الخير :
يشهد السودان تحولاً هيكلياً في إدارة المال العام عبر منظومة “إيصالي” للتحصيل والإيصال الإلكتروني، التي تهدف إلى توحيد إجراءات السداد والتحصيل وإحكام الرقابة ورفع كفاءة الإيرادات وتطبيق المعايير المحاسبية والحوكمة والشفافية
جاءت هذه المنظومة استجابة لحاجة ملحة لإغلاق أبواب التلاعب وتعدد الحسابات خارج الوعاء المالي للدولة، وترسيخ مبدأ الخزانة الموحدة، وربط كل رسوم الخدمات الحكومية بمنصة رقمية واحدة تتكامل مع القطاع المصرفي.
يقود هذا التحول الدكتور عبد المحسن أحمد محمد خير، مدير الإدارة العامة للتحصيل والسداد الالكتروني بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي الاتحادية مؤكداً أن جوهر الإصلاح هو تحويل رحلة المواطن للحصول على الخدمة إلى رحلة آمنة وشفافة وبوسائط دفع إلكترونية فقط، بعيداً عن النقد المباشر أو الحسابات الشخصية.
**** الرؤية والمرتكزات الاستراتيجية
منظومة “إيصالي” تقوم على توحيد خزينة الدولة بتحويل كل التحصيل إلى حساب موحد باسم وزير المالية الولائي، مع تجميع مصرفي مرحلي ثم توريد آلي. يتم ترميز الرسوم وربط كل خدمة حكومية برسومها المجازة في الموازنة، ولا يُسمح بتعديلها أو تخفيضها أو تقسيطها خارج الأطر الرسمية. تُنفذ المنظومة قرار مجلس الوزراء رقم 149 بمنع السداد النقدي للمتحصلين أو لحساباتهم، وحصر القنوات في الدفع الإلكتروني. وتقوم على دورة مستندية محكمة، وصلاحيات محددة، وتوثيق إلكتروني لكل معاملة، وربط هاتفي مع أرقام تسلسلية لسندات التحصيل لضمان الشفافية والرقابة.
***** النطاق الجغرافي وخارطة الانتشار
بدأ التطبيق في بورتسودان كنقطة انطلاق، ثم توسع إلى الشمالية ونهر النيل والقضارف وكسلا والجزيرة، مع التوجه للخرطوم. جرى اعتماد أسلوب التنوير والورش ومواءمة البنية التقنية مع واقع كل ولاية، إلى جانب توفير الأجهزة الطرفية التي تمكّن من التحصيل والسداد الإلكتروني في الأطراف.
***** الفرق بين “سداد” و”إيصالي”
نظام “سداد” كان منصة تحصيل إلكتروني متعددة القنوات، شملت الكاش والتحويلات والشيكات والتطبيقات المصرفية، وتنتهي بإصدار إيصال إلكتروني؛ لكن بقاء الكاش وتعدد وجهات التحصيل أبقى مساحات للتسرب والتشتت. في “إيصالي” قناة الدفع موحدة عبر المنظومة فقط دون نقد، وتتجمع كل الإيرادات في حساب وزير المالية الولائي، ويُمنع التحصيل في حسابات الوحدات أو الحسابات الشخصية، وتُربط الرسوم بالنظام برسوم ثابتة ومجازة مع تكامل مصرفي مباشر. النتيجة هي تقليص التسرب، وإلغاء التشتت الحسابي، ورفع يقين المواطن بقيمة الخدمة التي يدفع مقابلها.
**** تصميم الرسوم وأنماطها
تُدار الرسوم الثابتة مثل رخص الاستيراد بقيم محددة ومجازة تظهر للمواطن وتُسدد كما هي دون تدخل بشري. أما الرسوم المتغيرة أو المفتوحة، مثل رسوم عربات نقل السلع بحسب عدد الجوالات، فقد عولجت بدورة مستندية تمنع الخطأ البشري وتدعم تصحيح الفروقات.
***** الحوكمة والدورة المستندية
تُسند الصلاحيات لمستخدمين محددين: المدير المالي للاعتماد وطلبات الاسترداد، المراجع الداخلي للفحص والمطابقة، والمتحصل/مصدر الفاتورة للإدخال وفق اللوائح. تُوثق كل معاملة برقم تسلسلي فريد، ويُؤخذ رقم هاتف طالب الخدمة ويرتبط بالمعاملة، وتُؤرشف المستندات المؤيدة للحالات الخاصة. لا يُسمح بإعفاءات أو تخفيضات أو تقسيط خارج اللوائح.
**** معالجة أخطاء التحصيل والحالات الخاصة
عند حدوث زيادة أو نقصان، يجري توثيق المعاملة غير السليمة بالأسباب، وتدقيقها عبر المراجع الداخلي، ثم رفعها للمالية لاتخاذ الإجراء. الاسترداد المالي يتم حصراً من وزارة المالية لأن كل المبالغ تدخل حساب وزير المالية الولائي.
في الحالات الخاصة، كوفاة مريض بعد سداد رسوم عملية قبل إجرائها، تُرفق المستندات وتُعتمد الواقعة وتُرسل للخزانة لإرجاع المبلغ إلى حساب المواطن. بالنسبة لانقطاعات الشبكة، تم اعتماد أجهزة طرفية تدعم ضعف التغطية والعمل المتجول في الأطراف مع نمط عمل متصل/غير متصل يتيح المزامنة اللاحقة فور عودة الاتصال، إلى جانب توزيع الاعتمادية على قنوات مصرفية متعددة.
**** البنية التقنية والتكامل المصرفي
تم ربط “إيصالي” مع 11 مصرفاً تجارياً وإلزام البنوك بتوفير نافذة “الخدمات الحكومية”. تُدار حسابات تجميعية بفترة زمنية محددة قبل التحويل التلقائي لحساب وزير المالية الولائي، وتم توحيد عمولات البنوك بعقود ملزمة علما بأن المنظومة من تصميم سوداني لشركة CDS بإشراف وزارة الداخلية، مع نسخ احتياطية دائمة في مواقع سرية وإجراءات سلامة مشددة، واعتماد مبدأ أقل الصلاحيات وتتبع كامل للمعاملات.
**** الأجهزة الطرفية وتغطية الأطراف
تمت معالجة تحديات الشبكات بتوفير أجهزة طرفية مهيأة لضعف التغطية وداعمة للتشغيل المتجول وربط مباشر بالمنظومة. تظل كلفة الأجهزة تحدياً بسبب الاستيراد وتقلبات سعر الصرف؛ لذا يجري إشراك الولايات في خطط التوفير والتمويل. في ولاية الجزيرة تُقدّر الحاجة المبدئية بنحو 900 جهاز طرفي للتشغيل الشامل.
**** بناء القدرات والتمكين المؤسسي
نُظمت ورش مكثفة، منها 14 ورشة في ولاية الجزيرة خلال أكثر من أسبوعين، استهدفت المتحصلين بعدد يتراوح بين 1500 و2000، والمحليات ذات الثقل الإيرادي مثل ود مدني الكبرى والمناقل، وقطاعات التأمين الصحي والري والزكاة والنيابات، إضافة إلى الأمن الاقتصادي والمراجعة الداخلية كأذرع رقابية. كما جرى التأكيد على دور الإعلام شريكاً أساسياً لتثقيف المواطن بخطوات الخدمة والدفع الإلكتروني ومنع الكاش.
**** تكامل البيانات والحوكمة المالية
أنهت المنظومة الحالة “الجزيرية” للمحليات التي كانت تعمل بحسابات خاصة بعيدة عن رؤية وزير المالية. باتت التدفقات والإيرادات تُعرض لحظياً على مستوى الولاية والمحليات والوحدات. ينعكس ذلك على قرارات عادلة في توزيع الموارد وتقليل المفاجآت المتعلقة بالمرتبات والالتزامات، وحصر الرسوم الخارجة وإدخالها في الوعاء العام.
**** المؤشرات والنتائج الأولية
سجلت ولاية البحر الأحمر نمواً في الإيرادات بنسبة 25% كحد أدنى منذ تاريخ الموازنة. ارتفعت نسبة الشمول الرقمي في الدفع للخدمات الحكومية، وتحسنت مطابقة الإيراد الفعلي مع المتوقع على أساس شهري وفصلي، وتفعّلت الرقابة المشتركة بين المراجع الداخلي والأمن الاقتصادي والمراجع القومي.
**** التحديات ومقاومة التغيير
توجد مقاومة طبيعية لدى المستفيدين من تشظي الحسابات والتحصيل خارج القنوات. تواجه المنظومة ضعفاً في البنية الشبكية وتلف 94 نقطة ربط في الجزيرة رغم كونها ميزة نسبية كبيرة. كما أن كلفة الأجهزة الطرفية وفجوات المعرفة والالتزام باللوائح لدى بعض الكوادر تمثل تحديات قائمة. تتعامل اللجنة العليا للإشراف مع هذه التحديات عبر خطط لإعادة تأهيل نقاط الربط، وتحسين بيئة العمل، وتحديث اللوائح، وتطبيق حوافز وضوابط مهنية لمصدري المطالبات والمتحصلين.
**** خارطة الطريق والآفاق
تتجه المنظومة لاستكمال الربط مع المرور والمعابر ومؤسسات الخدمات عالية الحركة مع وقف الكاش تماماً. يجري تعميق تكامل البيانات عبر ربط سيريال الإيصال برقم هاتف المواطن لإتاحة إشعارات وسجل مدفوعات وتتبع للخدمة، وتوسيع التكامل المصرفي والتطبيقات البنكية لتسهيل تجربة المستخدم. تشمل الخطوات اللاحقة ربط الشركات الحكومية والهيئات ذات الطبيعة الربحية ضمن إطار يميز بين المال التشغيلي والمال العام. وتُطرح ولاية الجزيرة كنموذج للتحول الرقمي الحكومي بعد إصلاح قاعدة نقاط الربط.
**** توصيات تنفيذية
تسريع تدعيم البنية الشبكية وإعادة تأهيل نقاط الربط المعطلة. اعتماد نموذج تمويل للأجهزة الطرفية بشراكات مع البنوك وشركات الاتصالات، مع جدولة شراء 900 جهاز للجزيرة. إطلاق حملة إعلامية مستمرة لشرح منع الكاش وقنوات الدفع المعتمدة، وآليات الاسترداد في الحالات الخاصة، ونشر تقارير شهرية مبسطة للمواطنين عن الإيرادات وأثرها على الخدمات. تعزيز الرقابة الفورية بلوحات قيادة للإيرادات وتنبيهات للشذوذ. متابعة مؤشرات الأداء كالنمو الشهري ونسبة التحصيل الإلكتروني وزمن إنجاز الخدمة ومعدل أخطاء الفوترة وحالات الاسترداد ومدة معالجتها.
**** الخاتمة
أثبتت منظومة “إيصالي” أن الإصلاح المالي لا يتحقق فقط بتغيير أدوات التحصيل، بل ببناء نظام متكامل يجمع الخزانة الموحدة والمعايير المحاسبية والتحول الرقمي والرقابة الذكية والتثقيف المجتمعي. ما طرحه الدكتور عبد المحسن أحمد محمد خير يبيّن أن نجاح المشروع مرهون بإرادة سياسية وتنفيذية لا تتراجع أمام مقاومة المصالح، وبنية تقنية ومصرفية متماسكة تصل حتى المناطق الطرفية، وشراكة إعلامية ومجتمعية تُطمئن المواطن وتُسهل عليه رحلة الخدمة والدفع. النتائج المبكرة بزيادة الإيرادات وتحسن الضبط المالي تؤكد سلامة الاتجاه، فيما تبقى استدامة التنفيذ وتعميق التكامل وتجاوز تحديات الشبكات والأجهزة عوامل الحسم لتحويل “إيصالي” إلى منصة قياسية لحكومة مالية رقمية عادلة وفعالة في كل الولايات السودانية.