صهيب حامد يكتب… كيف يستفيد السودان من حرب الرسوم الجمركية بين أمريكا والصين لإحتلال موقعه الذي يوازي حجمه الحقيقي في عالم اليوم؟.. (١-٤)
يبدو أن الله قد توقف عن رعاية الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً ، بعكس المَثَل الأمريكي الذي يلمِّح بأنّ الله يرعى الأطفال والسكارى والولايات المتحدة الأمريكية!!!.
الذي لا يعمله الكثيرون أن أمريكا بنفوذها في المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) فرضت إستخدام مقياس سعر الصرف(Exchange rate basis) لقياس قوة إقتصادات الدول وهو مقياس كاذب لترتيب القوة الحقيقية للإقتصادات الوطنية.
فميزته أنه يضع الإقتصاد الأمريكي في المقدمة بقيمة إجمالية قدرها ٢٩ تريليون دولار ويأتي ثانياً الإقتصاد الصيني بقيمة ١٨ تريليون دولار.
ذلك رجوعاً لإحصائيات البنك الدولي للعام ٢٠٢٤م. ولكن ذلك لا يعكس واقع القوة الإقتصادية للقطبين العالميين ، فالمؤشر الحقيقي الذي يعكس قوة المركز الإقتصادي لأي دولة هو مقياس القوة الشرائية (Perchasing power parity basis) والذي يقفز بالناتج المحلي الإجمالي (GDP) للصين إلى ٣٧ تريليون دولار بينما تظل الولايات المتحدة في مربع ال٢٩ تريليون دولار!!.
إذن بإستخدام مقياس معدل سعر الصرف يتفوق الإقتصاد الأمريكي بمقدار ١١ تريليون دولار ، بينما بمقياس القوة الشرائية يتفوق الإقتصاد الصيني بمقدار ٨ تريليون دولار وهذا الأخير هو المعيار الأصوب لحسابه العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في سوقها الوطني وليس قدرتها الشرائية في السوق الأمريكي كما في خدعة مقياس سعر الصرف التي يمارسها البنك الدولي!!!.
يُجمع الإقتصاديون الكبار في البنك الدولي أن معيار معدل سعر الصرف هو معيار إسمي ولا يعكس واقع قوة إقتصادات الدول لأنه يعتمد على معيار الدولار ونمط إستهلاك المواطن الأمريكي وهو معدل عالي جداً ناتج عن واقع التضخم داخل الإقتصاد الأمريكي الناتج عن الدين العام الذي بلغ إلى الآن ٣٦ ترليون دولار أمريكي.
بعكس الواقع في الصين مثلا حيث أن ما يعادل دولار أمريكي واحد يمكن أن تشتري به أكثر جداً مما يمكن أن تشتري به نفس الكمية من السلعة في السوق الأمريكي!!.إذن لماذا تُضطر الولايات المتحدة لممارسة هذه الخدعة على العالم ؟.
ببساطة لأنه وبإستخدام الدولار كعملة قياس يتم وضع الولايات المتحدة في المقدمة وهي ممارسة مهمة لمنح الشعور النفسي للعالم بالتفوق الإقتصادي الأمريكي مما يجعل الناس والدول وبلا تردد يشترون أذونات أو سندات الخزانة الأمريكية (Treachery bonds) التي تعتبر أهم مرتكزات الدين العام الأمريكي لتمويل الموازنة الأمريكية والذي بلغ حتى الآن ٣٦ ترليون دولار!!.
إذن فهل مثّلت قرارات ٢ أبريل ٢٠٢٥م الخاصة بزيادة الرسوم الجمركية التي أصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ورطة إقتصادية لا مثيل لها للولايات المتحدة؟.. خصوصاً بعد رفض الصين الإستجابة لهذا الإبتزاز؟. ما هو هدف الرئيس الأمريكي من فرض هذه الرسوم الجمركية (Tariffs) وبهذا الشكل الباهظ!!؟.
يجيب الرئيس ترمب أنه في ظل التعريفات الجمركية القديمة تمارس أغلب دول العالم سرقة أمريكا ويتوجب على الجميع دفع إستحقاقات ذلك من الآن فصاعداً!!!.
ولكنها بالطبع ليست الحقيقة ، فالدين العام الأمريكي الداخلي والخارجي قد بلغ ٣٦ ترليون دولار وتستعد وزارة الخزانة الآن لتقديم مشروع لزيادته بمقدار ٤ ترليون جديدة.
وفي ظل صعود الاقتصاد الصيني الصاروخي وزيادة العجز في ميزان المدفوعات بين امريكا والصين لصالح الأخيرة (وصل ٢٩٠ مليار دولار) يعتقد ترمب أن السبيل لرتق هذا العجز هو زيادة الرسوم الجمركية وهو ما يمكِّن أمريكا من سداد الدين العام أولاً ومن ثم كبح جماح الاقتصاد الصيني الجامح بلا هوادة!!. .
فترمب وجمهوره لا يريدون الإلتفاف للسبب الأساسي للعجز في ميزان المدفوعات وهو الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك داخل الاقتصاد الأمريكي الذي أضحى منذ عقود يستورد أكثر مما يصدر وهو أمر كذلك نتيجة لسبب أكثر عمقاً وهو أن الاستهلاك أكبر من الادخار داخل باقة الدخل للجمهور الأمريكي (الادخار يبلغ ١٠٪ بأمريكا و٤٠٪ بالصين ). وبما أن الاستثمار يتناسب مع الإدخار طردياً
لذا فإن الإدخار المتدني أمريكياً يؤدي إلى تدني الموارد المخصصة للاستثمار بله ضعف البنية الإنتاجية التي يشكل الاستثمار قاعدتها الأساسية. إذن إتخذ ترمب القرار بافتراض أن أمريكا قادرة على تركيع الصين للشعور المتوهم الذي شرحناه سابقاً بأن الدخل السنوي الأمريكي أكبر من نظيره الصيني ، وهكذا كي يكتشف العالم بعد ذلك أن أمريكا أضعف بكثير من القيام بذلك. وهكذا إنهار سوق الأسهم العالمي جراء ذلك ليبلغ نزيفه في الأسبوع الأول ٥ ترليون دولار وهي معظمها شركات أمريكية!!.
ثم بدأ الأمر الأغرب وهو كذلك بدء الإنهيار التدريجي لسوق سندات الخزانة الأمريكية والتي كانت قيمتها تتناسب عكسياً مع سوق الأسهم وبذا بدأ الهروب المريع للإستثمارات صوب الذهب والبيتكوين بإعتبارهما الملاذات الأكثر آماناً بعد هبوط الأسهم والسندات!!.
وهكذا بدأ الهبوط المعلن الآن للدولار في سوق العملات لارتباطه بسندات الخزانة وهو هبوط لا يوقفه الا تراجع ترامب عن قراراته أمام التنين الصيني أو ركوع التنين الصيني أمام الفيل الأمريكي وكلاهما خيار أحلاهما مرّ!!. ولإبتزاز ترمب ومفاقمة وضعه بدأت الصين أولاً التخلص من سندات الخزانة الأمريكية التي بحوزتها (إشترتها في آجال سابقة) والبالغة ٨٠٠ مليار دولار مما أغرق سوق السندات وفاقم وضعها سوءاً على سوء ، ومن ثم ثانياً بدأت الصين كذلك في التخلص من أسهم الشركات الخاصة غير المدرجة في البورصة (Private equities) مما فاقم سوق الأسهم (Stock exchange) ، فهبطت كافة مؤشرات السوق (S & P, Nasdaq , Dow jones). بكلمات أخرى فإن قرارات ترمب تدشن لهندسة جديدة في خارطة التجارة العالمية وتؤكد معظم المؤشرات أن ذلك سوف يصب في مصلحة التنين الصيني ، وبذا يخسر ترمب اللعبة التي إخترعها لتركيع العالم!!.
ذلك جانب ، ولكن على الصعيد الداخلي هل من دلالة خاصة تحملها حرب الرسوم الجمركية لنا كسودانيين؟ وهل للسودان اي خاصية تجعل هذين القطبين يفكران فيه كساحة بديلة لمعركتهما؟.. هل كان ترمب وهو يلج لحواره الحالي مع إيران الذي يدور بوساطة عمانية يسيطر عليه هاجس إقتصادي في إطار حرب الإستثمارات في مجال النفط والغاز بينه والصين حول الكيكة الفارسية!؟.
خصوصاً وأنّ ترمب قد أولى هذا الملف لصديقه الملياردير والمطور العقاري المحامي (ستيف ويتكوف) الذي لا يصدر من إي خلفية سياسية في سيرته الذاتية عدا خلفيته كملياردير ناجح خصوصا وأن الرجل (أي ترمب) لا يخفي زهوه بكونه رجل صفقات!!. نفس المدخل هو ما يجرّبه ترمب مع أوكرانيا اليوم بإعلانه أن أمريكا ليس طرفاً في هذه الحرب ولكن إن قدّم زلنسكي صفقة جيدة لأمريكا في مجال المعادن فسوف يتدخل (أي ترمب) بعلاقاته مع بوتن لتقديم وصفة لوقف الحرب هناك!!!.
فهل تختمر هذه المقاربة كما وصفناها أعلاه في ذهن الرئيس الأمريكي حيال السودان في سياق التنافس الإقتصادي والخروج من مأزق التفوق الصيني؟
وهل يمكننا النسيان أن الإجراءات الأولية السابقة في رفع العقوبات الإقتصادية على السودان ما قبل سقوط الإنقاذ قد تمت على يد هذا الرجل؟..
أي أن الملف السوداني يظل حاضراً في أجندة إدارة ترمب في حال ترتيب الملف سودانياً على يد حكومة مدنية من التكنوقراط القادرين على التعامل بسلاسة مع الإدارة الأمريكية وفهم إحتياجاتها. ذلك من جانب ، ولكن من الجانب الآخر ، ما الذي يمتلكه السودان في سياق المقايضة سواء مع أمريكا أو غريمتها الصين؟..نواصل..