صهيب حامد يكتب…. كيف يستفيد السودان من حرب الرسوم الجمركية بين أمريكا والصين لإحتلال موقعه الذي يوازي حجمه الحقيقي في عالم اليوم؟ (٢-٤)
وإستطراداً على ما سبق ، ورغم ورطة الإدارة الأمريكية حيال قرارات الرئيس ترمب.
وكذلك رغم حراجة وضع الإقتصاد الأمريكي الناتج هذه القرارات وليس أقلها الخسارة التي ضربت أسواق الأسهم الأمريكية وكذلك سوق سندات الخزانة (Treasury bonds) وهرولة الإستثمارات للملاذات الآمنة ممثلة في الذهب والبيتكوين.
ولكن يبدو أن تسوية تلوح في الأفق سوف تعيد السوق لنصابه وهو ما صرح به وزير الخزانة الأمريكي إسكوت باسنت أمس الموافق ٢١ أبريل في إجتماعه مع مدراء البنوك المركزية.
حيث يبدو أن (تيم كوك) المدير التنفيذي لشركة أبل (Apple) صاحبة أكبر إستثمار أمريكي في الصين قد نجح في تقريب وجهات النظر في إطار مفاوضات غير رسمية بين البلدين.
صحيح أن الصين تهفو لإضعاف المنطقة الإقتصادية للدولار (Dollar zone) وهي تمتلك الأدوات للقيام بذلك ولكن ليس الآن اولاً لأنها لا تريد حدوث نزيف لمحفظتها من سندات الخزانة الأمريكية التي تقل قليلا عن الترليون دولار.
كذلك فهي جيواستراتيجياً في حاجة لترتيب أوضاعها ببحر الصين الجنوبي (نانهاي). إن إحدى أخطاء الدولة الصينية في حقبة (شي جين بينغ) هي سياساتها ببحر الصين الجنوبي (نانهاي) التي أكسبتها عداء كل من فيتنام والفلبين وماليزيا وإندونيسيا وبروناي إلى جانب إشكالها القديم بخصوص تايوان والأشكال الحدودي المستعصي مع الهند حول إقليمي إسكاي شين (لادخ) وسكيم (أرونارشال براديش). أي رغم تفوقها الإقتصادي.
ولكن الثوب الصيني ليس بلا ثقوب وهو ما يحدو بدول الآسيان (Asean) للحيلولة دون خروج الصين بكل المكاسب من هذه المعركة مع الولايات المتحدة لأن هذه الأخيرة هي الضامن الإستراتيجي لهذه الدول من التغول الصيني في إقليم (النانهاي) وهو ما حدى بفيتنام للوصول لإتفاق مع الولايات المتحدة وليس ذلك بمعزل عن التوتر الفيتنامي الصيني حول جزر البارسيل (Parcel Islands) التي ضمتها الصين في ١٩٧٤م. صحيح أن أزمة الدين العام الأمريكي والبالغ ٣٦ ترليون سوف تودي بالدولار إن لم يكن عاجلاً فآجلاً.
ولكن ليس في خضم هذه المعركة التي أثارها ترمب والتي حتى وإن نجا من آثارها فسوف تترك ندوباً على جسده السياسي لن تندمل قريباً. لذا ولحسن الحظ فسوف يخرج ترمب من هذه المعركة كالبطة العرجاء (Lame duck) بلا إدعاءات كثيرة وهو ما يجب أن تستفيد منه الحكومة السودانية للوصول لتسوية سريعة لأزمة العقوبات.
في ملة وإعتقاد هذا الكاتب أن السودان يجب أن يلعب بالبيضة والحجر للخروج من مصيدة العقوبات المفروضة عليه أمريكياً منذ حقبة بداية الألفية.
وفي ذلك يتوجب علينا تجاوز الإدّعاءات التوراتية والأوهام الأيديولوجية مع الوضع في الإعتبار أنّ هذا العالم بقعة تقودها المصالح. مثلا..
فإنّ إحدى إشكاليات الإستثمار في إيران منذ قيام الثورة الإسلامية هي العقوبات الأمريكية التي تمنع دخول رساميل الإستثمار العالمي لها. فرغم أن إيران تقع ثالثاً عالمياً على صعيد إحتياطات الغاز وخامساً على صعيد إحتياطات النفط ولكن إنتاجها من النفط في حده الأقصى لا يتجاوز ٣ مليون برميل/يوم (ينقص لاقل من ٢ مليون أحياناً).
بيد أن الإمارات التي تقع تاسعاً على صعيد إحتياطات النفط عالمياً تنتج ٥ مليون برميل /يوم وهي مفارقة سوف تكون لها عواقب جيواسترايجية وخيمة على إيران في المستوى المتوسط والطويل إن لم يتم تداركها سريعاً.
إن الصين تهفو للإستثمار في إيران و لكنها لا تريد خرق العقوبات الأمريكية إزاء ذلك لأن الميزان التجاري بين الصين وأمريكا يبلغ ٥٥٠ مليار دولار فضلاً عن ميله لصالحها (أي الصين).
إذن ومن وجهة نظر إقتصادية (Business wise) فالسوق الأمريكي ذي أولوية للسوق الصيني ، لذا فإن أردنا التعامل مع العالم فيتوجب أولا الخروج من مصيدة العقوبات الأمريكية وهي مصيدة لا يمكن الخروج منها دون ثمن.
هذا الكاتب من نفر يعتقد أن فرصتنا هي في الإنخراط ضمن مبادرة الحزام والطريق (Belt & Road initiative) لضمان شراكة صينية لإنشاء بني تحتية طموحة بعد الحرب ولكن ما يعوزنا هو دفع إستحقاق ذلك من مواردنا الذاتية في الظرف الطبيعي.
ولكن من يد فإن الصين لا تغامر مع دولة مثل السودان متعثرة في سداد ديونها القديمة فضلاً عن عدم تجاوز ميزانها التجاري معها حاجز ال٤٠٠ مليون دولار (دون حاجز المليار دولار) مقابل الولايات المتحدة التي يتجاوز ميزانها التجاري مع الصين حاحز ٥٥٠ مليار دولار ولا مقارنة بالطبع!!.
إذن فحسابات الريف يجب أن تتطابق مع حسابات البندر إن أردنا اللعب بالبيضة والحجر للخروج من عنق زجاجة العقوبات ما بعد الحرب.
إذن البطة العرجاء (ترمب) يضع الملف السوداني في إنتظار دوره في أجندة إدارته ، ولكن من حسن حظنا فسوف لن يكون (ترمب) مطلوق الظهر لإبتزازنا في ظل اللطمة الصينية التي سوف يتعرض لها جراء مغامرته الخرقاء بخصوص الرسوم الجمركية الأخيرة. ذلك من يدٍ.
ولكن من اليد الأخرى فماذا يمتلك السودان لمقايضته سواء مع أمريكا أو لنقل غريمتها الصين؟. فقطعاً أن السودان يتوفر أولاً على الموقع الإستراتيجي على البحر الأحمر وهو ما يخلق هاجساً للغرب خصوصاً في ظل إقتراب الإتفاق السوداني مع روسيا بخصوص القاعدة في البحر الأحمر. ولكن ليس ذلك فحسب ولكن.
فالسودان كذلك يتوفر على ثروة ضخمة من النفط والغاز على البحر الأحمر لا يمكنه إستغلالها في ظل فيتو سعودي على قيام السودان منفرداً بذلك ، كذلك ثروات أضخم بكردفان (جبال النوبة خصوصاً) ودار فور ، عناصر أرضية نادرة (خصوصاً اليورانيوم) بدارفور ، الذهب بكل أرجاء السودان حيث تأتي بلادنا على صعيد الإنتاج السنوي مباشرة بعد جنوب أفريقيا وغانا رغم العقوبات الإقتصادية بإنتاج يبلغ ١٠٠ طن سنوياً (تجاوزت أونصة الذهب يوم أمس حاجز ال ٣٥٠٠ دولار).
ولكن قبل ذلك وبعده وفوق ذلك وتحته فالسودان يتوفر على ٢٠٠ مليون فدان صالحة للزراعة و بمتوسط ٢٥٦ ملم من الأمطار في العام ووفرة من مياه الأنهار والمياه الجوفية وهو ما يعد فرصة كبيرة بخصوص الأمن الغذائي عالمياً وإقليمياً خاصة في الجزيرة والبطانة (مشروع الهواد) والفشقة وسهول كردفان ودارفور المشهورة بإنتاج المحاصيل النقدية وتربية الحيوان وكذلك كثافة سكانية تجاوزت ٥٠ مليون نسمة وفق إسقاطات تعداد ٢٠٠٨م!!!.
إذن قراءتنا الإستراتيجية المتأنية والصحيحة للمشهد العالمي بعد إنفجار معركة الرسوم الجمركية هي العمدة في شكل إستدارتنا لتحديد مصالحنا في إطار هذا الصراع. لقد أقنعت الإمارات العربية المتحدة مجلس الدولة الصيني بقيادة رئيس الوزراء الصيني السابق لي كي شيانغ على مقدرتها نزع إمتياز بعض الموانئ السودانية على البحر الأحمر.
وقد إقتنعت القيادة الصينية بقدرة الإماراتيين لفعل ذلك خصوصا وأن الإمارات قد صارت ترتبط بعلاقات تجارية إستراتيجية مع كل من الصين وروسيا في الحقبة الماضية بعد أن أصبحت (دبي) مركزا لتسويق النفط والغاز الروسيين وملاذاً آمناً للأوليغاركية الروسية بعد العقوبات الغربية الإقتصادية على رأس المال الروسي على عقابيل الحرب الروسية الأوكرانية.
كذلك والي جانب لعب الإماراتيين دوراً خطيرا في توريد الرقائق الإلكترونية لروسيا أسفل الطاولة.
لذا فلقد تزايدت الأهمية الجيوسياسية للإمارات لكثير من الدول َمنها الصين وروسيا والهند. فالطفل المدلل الذي تمثله الإمارات يستمد قوته في خرق المحظور الأمريكي وتجاوز خطوط مكتب الاوفاك (Ofac) من الأدوار الجليلة التي تؤديها الإمارات للطفل الأمريكي الأكثر دلالاً ممثلاً في اسرائيل!!.
وفي إطار الميقابروجكت الصيني الشهير المسمى بالحزام والطريق (Road & Belt) الذي بلغت ميزانيته في عقد واحد ما يوازي ١.٣ ترليون دولار تم ضخها لإقامة بنيات تحتية من طرق ومشروعات إقتصادية وموانئ ومطارات وسكك حديدية وغيرها على طول العالم في سبيل ربطه بالسوق الصيني ، نقول في قلب ذلك يقع السودان كرابط بين قلب أفريقيا والسوق الصيني.
فطريق رأس الرجاء الصالح ليس محبزاً للصينيين طريقاً لدول الساحل والعرب الأفريقي. ولكن نتيجة للعقوبات الأمريكية حاولت الصين المرور للسودان عبر وكيل يتحمل عبء القيام بذلك وهو ما تكفلت به الإمارات التي إمتلكت علاقات جيدة مع السودانيين بعد الثورة فمنحت حق الامتياز في تطوير ميناء (أبو عمامة) وغيره الي جانب مد خط السكة الحديد السريع الذي أقترح فجأة في حقبة حمدوك من بورتسودان إلى أدري التشادية ، المشروع الذي طرح آنذاك دون ذكر مموله ولا أهدافه ولا مبلغ تمويله!!.
لقد ذُكرت بورتسودان نصاً في خضم إستراتيجية (String of Bearls Strategy) إحدى دوائر مشروع الحزام والطريق وهي الإستراتيجية التي موّلت الصين في إطارها انشاء ميناء هامبانتوتا السيريلانكي وميناء قوادار الباكستاني و(كياوكيفيو) الميانماري وميناء (تريستا) الإيطالي على الأدرياتيكي ومشروعات بجزر سليمان وجزيرة (قرينلاند) وبعض الدول الاسكندنافية.
إذن ومنذ الآن يتوجب التواصل مع الصينيين الذين أدركوا مبلغ الضرر الذي أصاب علاقات السودان السياسية بالإمارات وهو ما سوف يحفّز الصينيين لقلب إسطرلاب علاقتهم معنا..نواصل.