صهيب حامد يكتب… أ. معتصم زاكي الدين.. قيادة حُظِينا بها!!
وبينما أُزمعُ الكتابة عن رجل نادر وعظيم شيخنا وأستاذنا عبد الرحيم إبراهيم أبو الغيث ( أبو الغيث.. قيادة لم نُحظَ بها!!) ،.
اقول وانا ازمع ذلك إذا بي أُفجعُ بخبر توعك صديقي وأُستاذي وشيخي أ. معتصم ميرغني حسين زاكي الدين كرّةً أُخرى خاسراً طرفاً ثانيا في معركته مع مرض السكري. أُستاذنا وشيخنا معتصم زاكي الدين محارب قديم وجَلِد لا يُشق له غبار إزاء المرض ، فلقد حارب المرض الخبيث إلى أن صرعه بالفنية القاضية!!.
ثم بدأت رحلته في الصراع مع داء السكري الذي لم تزل معركته معه سجالاً ونحن لا ينتابنا شك في خروجه من هذه المعركة كذلك منتصراً بحول الله وقوته ، فلرجل إعتاد الإنتصار في المعارك المصيرية لن يعدم سلاحاً لصرع هذا الداء اللعين فهو أضعف (أي المرض) بكثير من إرادة أُستاذنا الكبير الذي ترقّى في حياته بعصامية من معلمٍ إلى إعتلاء أعلى المناصب الدنيوية دون أن يطلبها. فلشخص لم يسعى يوماً لمنصب منذ دخوله معترك السياسة لدى َمنتصف ثمانينيات القرن العشرين ولكن رغم ذلك أتته كل المناصب تجرجرأذيالها وهو ما ينبؤك أى قدر من الرجال يكون، وكذلك لم يرف لهذا الرجل جفن حين أتته الدنيا فلقد خرج منها كما دخل إليها ، نظيفاً عفيفاً شفيفاً!!.
لقد تقاسم كاتب هذا المقال مع أ.معتصم زاكي الدين عديد الأسرار والمواقف الخطيرة في دنيا السياسة. فلقد إستدعاني أ. معتصم زاكي الدين في أحد أيام مايو (أواخره أكبر الظن) من العام ١٩٨٩م واضعاً على كتفى سراً عظيماً.
وقد انبأني وانا اجلس قبالته بعد إفشائه أني أصبحت الثاني الذي أتحاملُ على عنائي حاملاً إياه في المنطقة التنظيمية التي كانت تسمى أنذاك بشمال كردفان.
كانت مهمتي نقل توجيهات وتكليفا شفاهةً لأمناء المناطق بالجبهة الإسلامية القومية بشمال كردفان وهي (الخوي ، النهود ، أبوزيد ، الرهد ، ام دم ، ام روابة ، بارا). لقد كانت فحوى التوجيه هي القيام بعدة إجراءات بأعجل ما تيسر في هذه المناطق التنظيمية إستعداداً لتغيير قادم في البلاد. لقد طفت هذه المناطق.
وكانت أخرها الرهد التي وصلت منها للأبيض يوم الجمعة ٣٠ يونيو ١٩٨٩م وقد وجدت أن ما أسررناه قد أصبح معلناً ، وللتاريخ وإلى يوم الناس هذا لم أنبس ببنت شفة عن هذا التكليف إلّا عبر هذا المقال إمعاناً في حفظ حرمة القسم الذي أديته أمام أستاذي معتصم في ذلك اليوم عساه أن يتفهم السبب الذي أدّى بي اليوم لكشفه في هذا المقال!!.
اما الموقف الثاني ، فلقد قمنا في أبريل من العام ٢٠١٣م نحن ناشطي دار الريح بمبادرة تكوين (الهيئة الشعبية لإسناد طريق بارا جبرة أم درمان) وقد إستطعنا حشد فعاليات ضخمة ومهمة من كل مناطق الكبابيش ودار حامد والبديرية والجوامعة والهواوير والجبال البحرية.
لقد كان حشدا عظيماً توِّج بتنصيب المشير/سوار الدهب رئيساً للهيئة وهي جسم شعبي منوط به متابعة أجهزة الدولة لقيام هذا الطريق. لقد كان ذلك حافزاً لفعاليات شيكان عامة ومدينة الأبيض على وجه الخصوص لإطلاق حملة (المطلب موية وبس) وقد كانت هذه الحملة عمل إعلامي وجماهيري وسياسي مكثف ومزعج جداً لحكومة ولاية شمال كردفان التي كان يتسنَّمَها آنذاك أستاذنا معتصم زاكي الدين. بعدها إتصل بي سكرتير الوالي وإبن أخته الشاب الذي يتقاصر الأدب والتهذيب عند بابه الدكتور الآن عوض حمدان ناقلاً لي طلب الوالي العاجل لمقابلتي. أسّر لي أستاذي/ معتصم بالمعضلة التي تعيشها حكومته جراء حملة (المطلب موية وبس) ثم نقل لي كذلك مقترحه لتكامل الأدوار بخصوص الطريق وحل معضلة المياه معاً ،
وإستطرد ضاحكاً تقديرهم لقدرتنا كمكونات لدار الريح في سرقة كافة الرمزيات القومية الكبيرة من كردفان لصالح مشروع (الطريق) من أمثال المشير سوار الذهب والفريق الطيب عبد الرحمن مختار ود. فيصل حسن إبراهيم وسلمان سليمان الصافي إلى تلك الثلة الكريمة.،
منبهاً بأنهم حين يفكرون في رمزيات لتسويق مشروع المياه قومياً سوف لن يجدوا إلا هؤلاء الذين أستوعبوا في مشروع الطريق سلفاً ، وهنا نقل لي رؤيتهم المتمثلة في إلتماسه كوالٍ لنا أن نقبل تكوين هيئة قومية تنموية لرعاية المشروعين تسمى ب(هيئة تنمية ولاية شمال كردفان) والتي سوف يُصدِر هو كوالٍ أو أن يستصدر من رئاسة الجمهورية قراراً تكوينها. نقلنا الإلتماس لمكوناتنا.
بالطبع فلقد قبلنا كمكونات لدار الريح بهذا الإلتماس وهل يرد لأستاذنا معتصم طلب!!!؟.
إذن فقلد تقلد مولانا /أحمد هارون منصب والي شمال كردفان بعد شهر من ذلك كي ينقل له أستاذنا/معتصم زاكي الدين ملف الهيئة حيث إستماحنا مولانا/هارون تحويل إسم المشروع لنفير نهضة ولاية شمال كردفان!!!. اما الموقف الأخير ، فلقد إستدعاني أ. معتصم في أواخر عهده والياً على شمال كردفان على مائدة إفطاره في يوم ما من أيام الخريف في عام ٢٠١٣م وقد طلبني على وجه السرعة حيثما اكون فقذذت السير لحي المجاهدين بالخرطوم فوجدت معه على المائدة بعض موظفيه. لأول مرة ينقل أستاذي/ معتصم رغبته في التنحي عن منصبه كوالي والدفع بمولانا /أحمد هارون خلفاً له في المنصب.
وللتاريخ فلقد عارضت الرجل وجادلته وإجتهدت في بذل الحجج خصوصاً ذات الطبيعة الأمنية ولكنه في المنتهى اقنعني بصرامة أسكتتني بأنه لا خيار أفضل من مولانا /أحمد هارون لولايتنا (هكذا) وأنتزع مني وعداً بدعمه (كمكونات لدار الريح) والوقوف معه وتلك كلمة أبذلها لأول مرة في وجه التاريخ.
وهكذا حدث ما حدث وتنحّى أستاذي/معتصم زاكي الدين وأتي مولانا /هارون ، وبينما كنا (انا وأستاذي معتصم) نتبادل بمنزله بحي المطار بالأبيض أطراف الحديث كما إعتدنا كلما سنحت الفرصة عن نفير نهضة شمال كردفان وقد أحس بحماسي لأداء مولانا /هارون فضحك ضحكة مجلجلة وذكّرني بموقفي القديم الرافض لمولانا/ هارون وكيف أن موقفه (أي اسناذي معتصم) كان هو الصحيح فأومأتُ بالموافقة ضاحكاً كذلك.. يا لتلك الأيام!!.
لقد كانت أهم المحطات في السيرة السياسية لأستاذنا/معتصم زاكي الدين إختياره مرشحاً لمنصب والي ولاية شمال كردفان في العام ٢٠١٠ لفض الإشتباك بين كل من الأستاذ /محمد أحمد الطاهر ابو كلابيش ود.فيصل حسن إبراهيم حيث كاد الصراع السياسي حول منصب الوالي أن يتحول لصراع اجتماعي مما حدا بالمركز لإجتراح طريق ثالث وقد كان استاذنا معتصم زاكي الدين هو رجل ذلك الطريق. في ملتي وإعتقادي أن أهم إنجاز إنفرد به استاذي /معتصم زاكي الدين طوال فترة ولايته أنه كسر قاعدة إختيار الطاقم التنفيذي والسياسي ضمن دائرة الموالين ، فلقد إختار الرجل وزرائه ومعتمديه ورجال الحزب الذين عملوا معه من طيف الكوادر التي إنحازت لمنافسيه أو بالاحري إختار رجالاً نافسوه على منصب الوالي وهو أمر لم يسبقه له أحد لا قبلاً ولا بعداً في مضمار السياسة في السودان.
إتصل بي أستاذي/معتصم زاكي الدين بعد عودته من رحلة إستشفاءه بألمانيا طالباً مقابلة صحفية وقد نبهني أنها ليست مقابلة تقليدية ونصحني بالمجئ للأبيض حاضرة شمال كردفان لإجراء المقابلة. فعلا سافرت للحاضرة العروس وأجريت أغرب وأجرأ حوار يمكن أن يجريه صحفي مع سياسي في منصب رفيع.. لقد أسدى أستاذي /معتصم نصحاً جريئاً للقيادة السياسية في البلاد بخصوص دور الحركة الإسلامية وتجديدها وتأكيد دورها ، كذلك قدّم نقداً جريئاً للمؤتمر الوطني الذي من وجهه نظر أستاذنا/معتصم قد إحتشد بطيف واسع ممن لا يمحضون النصيحة ولا يحرصون عليها. كذلك إنتقد طبيعة المؤتمر الوطني التي تبيح صراع المصالح وتصفيتها في رحابه بمعزل من مصالح الناس. هنا وبحسي كصحفي أدركت أنني إزاء حالة نادرة من حالات ركل المناصب والزهد فيها فتمادى الصحفي بداخلي لإخراج المزيد من التصريحات من والي غلب صوت الصلاح بداخله على صوت المصالح الضيقة وهي لعمري من اللحظات النادرة في علاقة الصحفي بالحاكم أو السياسي حيث لا يرعوي هذا الأخير بعصاة قيادته ولا بما تدّخره من عقاب.. فتأمّل!!. حكي لي أستاذي /معتصم طرفة نادرة ، فبينما هم يدخلون في العام ٢٠١٣م كل من أسناذي/معتصم زاكي الدين ومولانا/أحمد هارون على الأستاذ /على عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية آنذاك بمكتبه بمجلس الوزراء وهم يحملون إستقالاتهم ، أستاذي/معتصم زاكي الدين من منصب والي شمال كردفان ومولانا/هارون من منصب والي جنوب كردفان تنبه أ. على عثمان للحظة تاريخية سابقة مذكراً إياهم إجتماعه معهم قبل ربع قرن في العام ١٩٨٨م وهو كان آنذاك نائباً للأمين العام للجبهة الإسلامية وقد أصبح استاذي /معتصم تواً أميناً عاماً للجبهة الإسلامية بشمال كردفان وصار مولانا/هارون المتخرج لتوه أميناً سياسباِ ، فاستطرد النائب الأول وقتها قائلا وها هو التاريخ يعيد نفسه كي يخلف احدكما الآخر في نفس المكان!!.
إن خيط الذكريات يطول ويطول في الحديث عن استاذي واستاذنا جميعاً معتصم زاكي الدين ، فلرجلٍ قد خرج من عباءتين إحداهما سياسية (حزب الأمة وكيان الأنصار) والأخرى إجتماعية (قبيلة البديرية) ولكنه إستطاع أن يأخذ بعداً موضوعيا عن العبائتين دون أن يستنكفهما ، وكما قال البروفسير محمد أركون عن أبو حيان التوحيد واصفاً إياه في بلاط البويهيين بأنه كان فيلسوف الأدباء واديب الفلاسفة ، كذلك فلقد كان أستاذي /معتصم زاكي الدين أنصاري الإخوان المسلمين وأخ مسلم الأنصار قسمة عدلاً لم يحس فيها الأوائل انه تركهم ولم يحس الأواخر انه لم يزل يحن لأهله ، كذلك فهو إبن البديرية (معتصم زاكي الدين) تجلس معه كحامدي أو كباشي أو جامعي أو شنبلي أو من الكواهلة أو الهواوير دون أن تحس بغربة إجتماعية بل يمنحك الرجل إحساساً بكونه جزء من نسيجك الإجتماعي وهي لعمري موهبة نادرة الحدوث على الإطلاق زماناً ومكاناً!!. ورغم كون شهادة كاتب هذا المقال مجروحة في أستاذي /معتصم زاكي الدين ولكني زعيم بأن الرجل من الرجال الأكثر جدارة بالإحترام والأكثر تقوى والأكثر صالحاً في عالم السياسة السودانية عسى أن يمنحك الله استاذي معتصم نعماء الصحة والعافية والعمر المديد لصالح الأجيال التي تستقي من منهلك العذب وحضورك المبارك الأنيق.