صهيب حامد يكتب…. آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢٤—٣٥)
حسناً.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فلقد كشفت ساحة الجدل الإجتماعي (Social Dialectic) بعد وفاة المهدي صراعاً بنيوياً بين قطبي الثورة المهدية.. بنية عقل برجوازي يمثله (الأشراف) ضد بنية عقل تناسلي يمثله (البقارة)!!.
ولكن قبل الإسترسال يجمل بنا تصنيف وموضعة (الأشراف) ضمن باقة القوى الإجتماعية ما قبل إندلاع الثورة المهدية.
وكما جَلوْنا في ثنايا تحليلنا للقوى الإجتماعية الصاعدة للمسرح في العهد التركي ، فلقد دشّن الأتراك تحالفاً عروبي الطابع كان طليعته (الشايقية) الذين كانوا قبل دخول الاتراك في ١٨٢١م في طورهم (الشرنقي) لتأسيس كيان سياسي في الجزء الشمالي لسلطنة سنار.
ولكن بعد هزيمتهم في (كورتي) إندمجت مجموعات الشايقية بقيادة العدلاناب في مفاصل الدولة الناشئة وقد إمتهنوا الجندية وجباية الضرائب. بعد هنيهة إبتداءاً من أربعينيات القرن التاسع عشر دخل مكون مهم وخطير ساحة الحراك الإجتماعي في العاصمة الإستعمارية (الخرطوم) وهم مجموعات (الدناقلة) بقيادة محمد خير الارباوي.
حيث يذكر محمد محمد سيد أحمد في كتابه المهم (تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري) أن هذه المجموعات قد تدفقت من الشمال للعمل في مجال المراكب والوابورات النهرية خصوصاً نقل الرقيق عبر النيل الابيض.
ولكن حدث تطور أكثر خطورة في مضمار حراك القوى الإجتماعية في العهد التركي إبتداءاً من منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر إذ برز أخطر رموز المركز العروبي في سودان القرن التاسع عشر ممثلاً في الزبير باشا ود رحمة الذي أسّس اول جيش سوداني منظم مسلّح تسليحاً حديثاً (البازنقر) إستطاع أن يهزم به الدولة التركية نفسها ومن ثم إسقاط أعرق سلطنة سودانية (سلطنة كيرا) التي تحدّت الأتراك لأكثر من نصف قرن. لقد سلّط (شقير) الضوء على سيرته الذاتية من لسانه شخصياً (أي الزبير باشا) وهي إفادات تلقي أضواء مهمة على تاريخنا في تلك الحقبة.
(الأشراف) – الذين ينحدر منهم (المهدي)- هم جزء من المكون الإجتماعي للدناقلة المستعربين الذين إستقطبهم محمد خير الأُرباوي منذ مبتدأ أربعينيات القرن التاسع عشر والذين تعرّبوا فيما بعد على قدم المساواة مع الشايقية والجعليين كي يشكِّلوا المزيج الإجتماعي الذي أنتج ما يمكننا تسميته (بقوى المركز العروبي) في السودان إبتداءاً من العهد التركي فصاعداً.
ثمة إستفهام يتوجب الإجابة عليه أولاً حول كيفية تسَنّم ذوي الأصول النوبية ذروة المركز العروبي في السودان بينما لا يشمل هذا المركز عرباً أقحاحاً كالبقارة الضلع الآخر الأكثر أهمية في المهدية!!؟. وهنا يبرز دور المقاربة المنهجية.. فكظاهرة أنتروبولوجية قد يتناقض أحيانا الأساس الأبستميولوجي (المعرفي) لمجموعة ما مع توجهها الآيديولوجي الذي يحدد مصالحها الزمنية في حقبة ما من التاريخ!!. فلقد تنبّه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في ثلاثية العقل العربي (التكوين والبنية والفكر السياسي) للتناقض بين الأساس الأبستميولوجي المستلف من الإرث الهرمسي (Hermes Trismegistus) غير العقلاني للشيعة وتوجههم الآيديولوجي الثوري في الحقبة الأموية.
بعكس (القدرية) الذين حظوا بخلفية أبستيميولوجية عقلانية لم تنعكس في موقفهم المحافظ والرجعي آيديولوجياً إزاء الحكم الأموي في نفس الحقبة. إذن ليس مستغرباً كظاهرة أنتروبولوجية أن تنتحل مجموعات (الأشراف) ذوي الأصول النوبية توجهاً آيديولوجياً عروبياً يتناقض مع خلفيتهم الأبستميوبوجية كنوبيين ما دام أن ذلك ينسجم مع مصالحهم الزمنية في تلك الحقبة التاريخية. وهكذا إستدمج الدناقلة من النوبيين ميلاً آيديولوجياً عروبياً للتوائم مع مصالحهم في إطار حكم الأتراك في السودان هؤلاء الأخيرين الذين إجترحوا مذهبية سنية رادها (الختمية) ومذاهب التسنن التي إستجلب الأتراك شيوخها ضمن طاقم حملة الفتح ممثلة في المالكية والشافعية والأحناف.
وهو ما يؤكد أن الأتراك كانوا على وعي بنوع الأسلحة التي يتوجب عليهم إستخدامها لترويض السودانيين. بالطبع وبعد كل هذا الزمن الطويل فليس عسيراً على السودانيين اليوم فهم أن هدف الأتراك كان خلق إنقسام إجتماعي ذي طابع آيديولوجي يمكنهم (أي الأتراك) من التحالف مع جزء من المجتمع (عبر إقناعهم بأنهم عرب اقحاح) لنهب الجزء الآخر بصفتهم عبيد يبيح الدين إسترقاقهم وبيعهم وسبي نسائهم!!!. وهكذا صار حالنا كسودانيين إلى يوم الناس هذا ما هو إلّا دوامة ضمن متلازمة تركية ينهب فيها بعضُنا بعضَنا الآخر!!.
ولكن هل كان الدناقلة بدعاً في ذلك!!؟. ألم تستغل المجموعات التابعة للعبدلاب في نهايات حقبة الفونج نفس آليات التلاعب الأيديولوجي في سبيل الحراك الإجتماعي!!؟. ألم ينقلب خلال أقل من قرن من ذلك التاريخ كل من الشايقية والجعليين قافزين من مركب إدعائهم الأصل الفونجي ما قبل إنقلاب نول في ١٧١٨م إلى الإنحياز لإبنه بادي الرابع الذي تبني الدستور العربي في نقل الأرومة عبر سلسلة الذكور في ١٧٥٤م!!؟. النسب العربي الذي شرعنه الأتراك فيما بعد إنطلاقاً من ١٨٢١م وصاعداً!!. ولكن الطرافة لا حدود لها في هذا المضمار ، خصوصا إن علمنا أنّ أقوى الفصائل لدى الشايقية (العدلاناب) ليسو سوى فونج (عبدلّاب). فكما يحكي (إسبولدينق) فلقد خرج جدهم (حمد المسيح) حَرِداً في مبتدأ القرن الثامن عشر من قرِّى بعد مقتلة مع أبناء عمه ميمماً شطر الشايقية موسِّسا فرعاً أصم هناك مستفيداً من (نموزج الحكيم الغريب) كما يحكيه هولت ويوسف فضل!!.
وإلّا ما الذي يفسر أن الشايقية العدلاناب ما أن وصلوا (الحلفايا) ضمن حملة إسماعيل باشا حتى إدعوا أن العبدلّاب يضمرون شراً بالأتراك فأذِن لهم الباشا قتالهم والإقامة بينهم لتأديبهم وضمان سلوكهم الحسن ، الإقامة التي إستطالت فصارت (حلفايا الملوك) إلى يوم الناس هذا قسمة بين (العدلاناب) وأبناء عمومتهم (العبدلاب) !!. إذن عمِلت قوي المركز العروبي إبان الحكم التركي (الشايقية ، الدناقلة ، الجعليين) كمجموعات (وظيفية) أعانت الأتراك في حكم السودان لتحقيق هدف محمد علي باشا في السودان وهو خلق تراكم إستراتيجي يعينه في بناء مصر الحديثة!!. لقد تم توظيف الشايقية في العمل الديواني للدولة الإستعمارية (الجندية وجباية الضرائب).
أما الدناقلة فقد تخصصوا في النقل النهري خصوصاً (نقل الرقيق) وسن الفيل وريش النعام ، أما الجعليون الذين صارعوا الأتراك بعد مقتل إسماعيل باشا فهربت مجموعاتهم بعدها إلى الحبشة ، ولكن إبتداءا من حقبة الحكمدار خورشيد باشا فيما بعد ١٨٣٠م عادوا للإستقرار في مناطقهم التقليدية وكذلك في العاصمة الإستعمارية (الخرطوم) في حي الترس وهو حي المقرن حالياً (د. محمد محمد سيد احمد) . إذن مثّلت هذه المجموعات النخبة الوطنية المتحالفة مع الأتراك ، وإن لم تخلو علاقات هذه المجموعات من توترات خصوصا التي عملت في تجارة الرقيق. فلقد شاب علاقات الدناقلة والجعليين بعض التوتر خصوصا بعد بذوخ نجم الزبير باشا رحمة في بحر الغزال. وبما أن الدناقلة قد مثّلوا أغلبية حكام المناطق تحت إمرة مدير المديرية هناك (بحر الغزال) ، لذا فلقد أزعجت كاريزما (الزبير باشا) مجموعات الدناقلة في تلك الأنحاء وهو الصراع الذي تمظهر في الإحتكاك والصراع بين هذا الأخير وإدريس أبتر الدنقلاوي الذي تسبب في كثير من سوء التفاهم بين الزبير باشا والحكمداريين في الخرطوم وقد بلغ ذروته في إغتيال سليمان بن الزبير باشا على يد جسي باشا في ١٨٧٩م. ولكن من يد ، فلقد تضافرت جهود جميع قوي المركز العروبي بعد جدية الأتراك في حظر تجارة الرقيق إبتداءاً من حقبة الخديوي إسماعيل (١٨٦٣م-١٨٧٩م) وهو ما خلق إضطراباً كبيرا في الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية في السودان مما حدا بهذه المكونات العروبية الثلاث (الدناقلة والشايقية والجعليين) للتحالف مع الحركة المهدية التي تصادف أن يكون زعيمها (المهدي) من مجتمعات الدناقلة المستعربين ، حيث سُمّي أقارب هذا الأخير (أشرافاً) إعتماداً على فرضية إنحدار هذا الأخير من أرومة النبي (ص) حسب الإدعاء الذي تضمّخت به التشكيلة الخطابية المهدوية!!.
إذن وحين إحتدم الصراع بين البقارة والأشراف داخل الإطار السياسي للدولة المهدية تهيأ الإطار الثقافي الإجتماعي الذي يقوده الأشراف (الدناقلة) ويضم الشايقية والجعليين لخوض المعركة المشتركة ضد البقَّارة لإستدماج المكونات الإجتماعية الثلاثة بنية وعي مشتركة (بنية عقل برجوازي) في مواجهة بنية وحساسية صادرة من إطار ثقافي وإجتماعي مختلف (البقَّارة) الذي إستدمج بنية وعي صادرة عن بنية عقل تناسلي. البقارة كعرب عاربة (جهينة) هم الأقرب للعمق العروبي دماً ولساناً وتاريخاً وثقافة ، ولكنهم بمعيار المركز العروبي المتبلور في حضن الدولة التركية (البرجوازي) لم يعتبروا كذلك!!. إذن لقد ورث (البقارة) السلطة السياسية بعد وفاة المهدي ، وبذا تقلصت تأثيرات المركز العروبي الذي تبلور في حقبة الحكم التركي طيلة حكم الخليفة عبد الله الذي طبعوا اسمه بلقب (التعايشي) فيما بعد للحط من رمزيته بيد أن الذي إشتهر بلقب قبيلته هو محمد أحمد المهدي (قصيدة محمد الشريف نور الدائم )!!. وهكذا لم يجد المركز العروبي بعد ذلك سوى القيام بمغامرة خطيرة بتعاونه مع الأجنبي الغازي للتخلص من حكم (البقَّارة) الأمر الذي سوف نسهب فيه في الحلقة القادمة ولله المثل الأعلى.. نواصل.