مقالات الظهيرة

صهيب حامد يكتب…. آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٤-٢٠)

إذن وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فإن نظام الحواكير بسلطنة (كيرا) يجد جذره في ممارسات ممالك الحزام السوداني الغربي (برونو وسونغي وغيرها). يقول أوفاهي أن النظام العقاري في سلطنة كيرا نشأ للإستجابة للإحتياجات والضرورات السلطانية لضمان نخبة متفاعلة ومفيدة في إطار دولة مركزية. في معرض حديثه عن أهمية الأرض لدى الفور يقول د. محمد إبراهيم أبو سليم أن لعلاقات الأرض في الفور تأثير سياسي وإجتماعي وكذلك للوضع السياسي والإجتماعي تأثير كبير على وضع الأرض بالسلطنة ، حيث يصنف في كتابه (الفور والأرض) العطاء الإقطاعي في سلطنة كيرا لثلاثة أنواع..

حاكورة العربان وهو منح مجموعات الرعاة أو قبيلة رعوية بأكملها لأحد أفراد البلاط أو النخبة ويكون مسؤولا عن جمع ضرائب وزكاة قطعانهم وأي أتاوات أخرى وأدائها للسلطان.

أما النوع الثاني هو حاكورة الملك أو الهبة أو الصدقة وهي حاكورات تمنح للفقرا والعلماء والتجار الذين يقومون بأدوار للسلطان ، وأخيرا حاكورات كبار الموظفين في البلاط فهؤلاء يمنحهم السلطان إقطاعات كبيرة تحوي قرى أو مراعي قبائل بأكملها وغيرها. بعكس الفونج كبنية وعي تناسلي والتي إرتكزت لعبة الأخذ والعطاء (التبادلية) لديهم على (المرأة الأونسابية) ذات الأرومة المقدسة ، فلقد إرتكز مفهوم التبادلية لدى الفور وسلالتهم الحاكمة (كيرا) كبنية وعي برحوازي على (الحاكورة). صحيح أن هناك أنماط عديدة للهدية (بالمفهوم الموسى نسبة لمارسيل موس ) كوسيلة لتحقيق التوافق لدى سلاطين كيرا.. منح الألقاب (مقدوم ، شرتاي ، دملج ، كرسي ، فرشة ، ساقال إلى آخره) ولكن كذلك يترافق مع اللقب هدية ما (إبريق للفقرا ، فرشة (سجادة) قاهرية أو فارسية وهي تمنح لمن صاروا يلقّبوا بالفرشة لدى الفور والمساليت فيما بعد ، العصا المستوردة للشراتي وهكذا دواليك) ،ولكن أهم مظهر للهدية لدى سلطان (كيرا) هي (الحاكورة).

 

كان (الفقرا) أكبر المستفيدين من الحواكير الممنوحة ، ففي الغالب فإن الحواكير تنزع من الممنوح لأسباب عدة منها الموت أو الأسباب السياسية أو الشخصية ولكن في حال (الفقرا) ولبعدهم من الصراع السياسي أو على السلطة لذا فيحترم السلاطين المتعاقبين وضع الفقيه أو الفقير. كذلك فإن الأوضاع المزدهرة للدين الإسلامي في السلطنة تعطيهم دائما أولوية في التعاطف سياسيا وإجتماعيا. هنا تظهر ممارسة لاحظها الرحالة (بالمر) في مملكة صونغي (Songhay) وبعض الممالك السودانية الأخرى وهي منح بعض الأسر الدينية في القرن الخامس والسادس عشر حقوق حمائية في الأرض الممنوحة بما في ذلك الإعفاء من الزكاة ليتم صرفها على إعمار المسجد أو على الطلبة المهاجرين وهو ما يشبه الوقف. نلاحظ ذلك في وثيقة أصدرها السلطان محمد دورا (١٧٢٢م-١٧٣٢م) الذي أعطى الفقيه محمد عز الدين من (الجوامعة) حاكورة بمنطقة جديد السيل شمال الفاشر ، فتم تجديد نفس العطاء لإحفاد هذا الفقية بواسطة السلطان محمد الفضل في ١٨٠٧م وقد كتب في (الحجة) أنها تمت على سبيل المنح الدائم ويمكن الإستفادة من زكاتها لإعمار المسجد.

 

كذلك فإن إعادة الفتح أو الغزو لمنطقة جديدة (مثل غزو تيراب لكردفان) فتترتب عليها أبطال مراسيم الأرض التي أصدرتها السلطات الفونجية السابقة للغزو ، ولكن لأسباب سياسية ودينية فإن السلطان يصدر مراسيم جديدة أو يجدد المراسيم القديمة لإثبات نفس الحق القديم ومثال ذلك تجديد منح حاكورة الجنيد بن سلامة الشويحي التي منحت له من قبل بواسطة مرسوم من سلطان الفونج فقام السلطان تيراب بإصدار وثيقة (حجة) سلطانية تديم الحق السابق. كذلك فلقد منح السلطان محمد الفضل القاضي عربي بن أحمد الهواري حاكورة بمدينة الأبيض تمتد من جبل كردفان وإلى موقع الجامع الكبير الحالي بوسط سوق الكبير مقابل تقلده منصب قاضي القضاة. كذلك لقد كانت الحواكير جزء من حسم الصراع بين المتنافسين علي السلطة ، مثلا فلقد حسم السلطان عبد الرحمن الرشيد صراعه مع إبن أخيه الحاج إسحق بن تيراب بعد وفاة السلطان تيراب في ١٧٧٨م بإشاعة أن إسحقاً قد عزم على نزع كل حواكير كبار موظفي البلاط ممن وقفوا مع غريمه. كذلك فلقد حسم محمد كرّا معركة تنصيب مرشحه محمد الفضل بمنح المصوتين له ١٠ حاكورات و٥٠٠ دولار و٢٠ فرساً بكل عتاده العسكري. لقد كانت حواكير جبل مرة خصوصا دار ديما ودار كرني من أخصب أراضي السلطنة رغم بعدهما من الفاشر، فالأولى تحوي ١٠٦ حاكورة بمساحة لا تقل عن ١٥٠ ميل مربع للواحدة بمساحة كلية تساوي ١٥ الف ميل مربع اي ١٠٪ من مساحة دارفور التي تبلغ ١٤٠ الف ميل مربع. الحواكير حول الفاشر كانت جذابة لقربها وسهولة إدارتها رغم طبيعتها الرملية وفقر إنتاجها مقارنة بدار ديما وكرني. حواكير دار دالي شرق الفاشر لم تكن جذابة لخلوها من السكان وعدم وفرة المياه وبعدها لأغراض الضرائب المباشرة رغم تماسك رجالها وعظمتهم وقوة شكيمتهم وهي ميزة عسكرية لا غنى عنها. بالطبع فلقد كانت الحواكير الكبيرة والواسعة يمنحها السلطان لكبار موظفيه وطبقته السياسية بالبلاط ذلك بمعزل عن أراضي السلطان التي يرثها من آبائه أو يختارها أو تهدى له.

 

ثمة أمر في غاية الأهمية ، فالأرض الواسعة ترتبط بشكل طردي بالعمالة.فمالك الحاكورة لا غنى له من العمالة الكبيرة والمستقرة في حواكيره. إذن علاقة السيد-التابع (cleint – patron) متقاطعة متبادلة. لذا فإن الحاكورة في سلطنة (كيرا) ترتبط بالقضيتين الأكثر أهمية للسلطنة وإستمراريتها وللسلطان كذلك .. أولاً الجبايات ثم ثانياً الحرب. كانت مهمة جمع الضرائب تقع على عاتق جهاز يسمى بالجبايين (Gabayyin) ويكون مسؤولا منه (أبو الجبايين) وهو غير معني بنوعين من الجباية وهما جباية حواكير السلطان وهي الأراضي الأوسع والأخصب في السلطنة والتي تجمع وتوزع على نساء السلطان ويكون مسؤول منها رجل في غاية الأهمية بالقصر (أبو جود). أما ضرائب الأسواق فيكون مسؤول منها أبو دادينقا أو الدادنقاوي (Al Dadingawi). القسم الأول من الجباية تحت مسؤولية أبو الجبايين هي الحبوب ونصابها ٣٠٠ مد ويؤخذ منها العشر (Tithe) اي ٣ مد عن كل ٣٠٠ مد ، وبما أن معظم الأراضي الخصبة الواسعة بالسلطنة هي حواكير لذا فإن علاقة ما كبيرة بين صاحب الحاكورة وتحصيل الجباية وهذه في غير حواكير الجاه التي قد تكون معفية من الجباية. لا تقف الجبايات في سلطنة كيرا على العشر فقط بل هناك ١٢ جباية عرفية سائدة ما قبل اسلام الفور (الفور تقليديون وملتزمون بكافة أوجه العرف لديهم) تسمى بالسبل العادية أو سبل الحكام وهي أقرب للغرامات توزع بين مناديب المقدوم والشرتاي والدملج.وهناك جبايات أخرى كضريبة التكاكي (takkyyia) والديوان وهذه الأخيرة تدفعها القبائل على رؤوس المواشي في الغالب.

 

نلاحظ انه من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر يصبح محمد بن عمر التونسي المرجع الأكثر موثوقية للسلطنة لإستقراره بها وقربه هو وأبيه من السلطان عبد الرحمن الرشيد أولا ومن ثم إبنه محمد الفضل ثانيا. يقول التونسي في معرض تأريخه لهذه الحقبة أن (أب شيخ دالي) وبالطبع فهو يقصد الرجل الخطير والشهير (محمد كرّا) من الخصيان (Eunuchs) ، كان يمتلك إمتيازات في إدارة التخصيصات السلطانية العقارية هي الأضخم في تاريخ السلطنة. يستطرد التونسي أنه من الواضح أن هدف ذلك هو توجيه كل هذه الإمكانيات للتعزيزات العسكرية للسلطان. يقول التونسي أن السلطان لا يمنح مكافآت منتظمة لكبار موظفيه أو قادة جيشه لكنهم يمنحون تخصيصات إقطاعية ومنها يمكنهم شراء الجياد والأسلحة والدروع والملابس وتوزيعها على جنودهم ويكون كل ذلك تحت الإشراف المباشر لأب شيخ دالي وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إذن هنا نلاحظ علاقة الحاكورة وصاحبها بالتنظيم العسكري، أي أن صاحب كل حاكورة من موقعه في البلاط هو قائد عسكري لمنسوبيه من عمال الحاكورة الذين يستطيعون حمل السلاح. وهكذا تتجلى أمام أعيننا الوظيفة الإقتصادية والعسكرية للحاكورة إلى جانب وظيفتها السياسية التي أوضحناها من قبل.. نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى