مقالات الظهيرة

صهيب حامد يكتب… آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٦-٢٠)

دورة صيد الرقيق وتجارة المسافات الطويلة (Raiding – Trading cycle) :

 

يقول أوفاهي أن الخليط من سكان بحر الغزال جنوب سلطنة (كيرا) ممن إعتاد الفور على تسميتهم بالفرتيت (Firtit) هم من أمدوها بأسباب النمو والقوة كمستودع لصيد الرقيق ، لذا فلقد كان ظهور (الكبانيّات) ببحر الغزال بعد دخول الأتراك السودان وحرمان (كيرا) من هذا المورد مؤلما بشكل مريع على طبقة الدارفوريين المحبين للبذخ حسب وصف سلاطين باشا حاكم مديرية دار فور في أواخر العهد التركي.

لقد ألجأ ذلك نخبة السلطنة لتحويل مواطنييهم أنفسهم كمصدر للموارد بزيادة الضرائب وهو ما سنسهب فيه بعد قليل. يستطرد أوفاهي بأنه دوماً ثمة علاقة بين التجارة وتكوين الدولة ، وتعبر عنها العلاقة المهمة بين تجارة المسافات الطويلة (long distance trade) وشبكة الأسواق المحلية والإقليمية.

 

فرغم أن التجارة الخارجية تخدم إحتياجات النخبة بالبلاط بالمقام الأول ولكنها كذلك تخدم أهداف إستراتيجية للسلطنة مثل توريد السلاح والعلاقات الدبلوماسية.

 

يورد (التونسي) في (تشحيذ الأذهان) ما يمكن أن يكون الدورة الكاملة لتجارة المسافات الطويلة (القوافل) التي عناها أوفاهي أعلاه في سلطنة كيرا وعلاقتها بصيد الرقيق.. فغزاة الرقيق يجلبونه من دار فرتيت التي وصفناها في أعلاه ، الجلابة الجوالون الذين يجمعون البضاعة المطلوبة من الأسواق المحلية للسلطنة ،

 

العرب الأبّالة (زيادية ومحاميد وماهرية وعريقات) يوفرون الرواحل (الإبل) للقوافل ، الخبراء (جمع خبير) وكبار التجار الممولين للقوافل فهؤلاء يقبعون في كوبي كمنسقين لا غنى عنهم الأوائل بعلاقاتهم بنخبة البلاط بل السلطان نفسه كممثلين له في الدولة الهدف ( Destination State) والأخيرون كممولين. وهكذا يمنح السلطان الإطار السياسي (الفرمانات) للقافلة الداخلة أو الخارجة من السلطنة عبر كوبي (Kobbei).

 

إذن عقدة التجارة الخارجية ومنتهاها هي كوبي (الميناء الرئيسي بالتعبير الحديث). من كوبي وإليها تتقاطع القوافل لأسيوط بصعيد مصر وإلي فزان بشمال أفريقيا ومنها كذلك إلي النيل بعد تحالف (الكيرا) والشايقية في نهاية القرن الثامن عشر وإلى ودّاي في ظروف الهدنة مع المابا (برقو) ومنها لباقي ممالك السودان الغربي.

 

ولكن قطعا فإن أهم مقصد للقوافل الخارجة من كوبي (Kobbei) هي أسيوط (مصر أهم شريك تجاري لدارفور) والتي تبلغ المسافة بينهما ١١٠٠ ميل عبر درب الأربعين. كوبي(Kobbei) كانت تبدو كمدينة نيلية في تخطيطها تمتد على وادي كوبي من كفود إلى الجبل المسمّي بإسمها. لقد أسس كوبي (Kobbei) كمجتمع كوزموبوليتاني مجموعة من الجلابة الهوارة والجعافرة والدناقلة. يحكي (براون) في زيارته لها في ١٨٠٦م أنه شاهد أجناس من مصر وتونس وطرابلس ودنقلا والنوبة وكردفان ،

 

والمهمة الأساسية لهذا المجتمع هي تجارة المسافات الطويلة. هناك شواهد قوية على وجود علاقات تجارية بين القاهرة ومدينة أوري (يرجح أنها عاصمة تنجر) عبر درب الأربعين منذ ١٥٨٠م وثقها الرحالة فانسلبين (Wansleben) في مذكراته. إذن كوبي كانت الحلقة الأكثر أهمية التي ألحقت دارفور ببنية عقل برجوازي عالمي والتي بدورها أسهمت كذلك في إعادة هيكلة الاقتصاد الدارفوري بغرض تلبية طلب هذا المركز البرجوازي العالمي بالرقيق (أهم سلعة تصدر من كوبي) والعاج وريش النعام والذهب وبعض السلع المحلية الأخرى الأقل أهمية.

 

وكذلك عبر كوبي (Kobbei) يتم إستيراد السلع البذخية للطبقة السياسية لبلاط كيرا (الملابس والعطور والسجاد والتوابل) إلى جانب المعدات العسكرية كالجياد والأسلحة (خصوصا السلاح الناري إبتداءا من نهايات القرن الثامن عشر فصاعدا). لقد كان الرقيق هم السلعة الرئيسية بين دارفور ومصر وقد قدر والز (T. Walz) في دراسة دكتوراة عن التجارة بين مصر وبلاد السودان وفق مصادر فرنسية في الفترة بين ١٧٩٨ – ١٨٠١ أن الوارد من الرقيق من دارفور يبلغ بين ٥ الف-٦الف في العام.

 

إذن يمكننا بإطمئنان وضع يدنا على أسباب الرخاء والتفوق لسلطنة (كيرا) إلى خمسينيات القرن التاسع عشر خصوصا الفترة التي شملت ولاية السلاطين عبد الرحمن الرشيد (١٧٨٧م-١٨٠٢م) ومحمد الفضل (١٨٠٢م-١٨٣٩م) والعقد الأول من ولاية السلطان محمد الحسين (١٨٣٩م-١٨٧٣م).

ثمة تطور مهم طفر أبتداءا من ١٨٢١م وذلك بإستيلاء جيوش محمد علي باشا على الفضاء الذي شغلته سلطنة الفونج إلى جانب نزع كردفان من (الكيرا). وهكذا إنقلبت الأحوال رأسا على عقب بدارفور ، فتسارعت الأحداث وطرأت مستجدات أثرت بشكل مريع على الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بالسلطنة. أولا فلقد فقد بلاط (كيرا) كل موارد الإقليم المهم (كردفان) ، ثم ثانيا قل الطلب على سلعة الرقيق من دارفور لإكتفاء مصر بالوارد عبر السلطات التركية بالسودان إنطلاقاً من عاصمتها الجديدة (الخرطوم) مما أثّر بشكل مريع على الإقتصاد الداخلي للسلطنة.

 

ولكن رغم ذلك فلم يزل الطلب الداخلي للرقيق ينعش هذه التجارة لأغراض الجندية والخدمة في الأرض. ولكن إبتداءاً من خمسينيات القرن التاسع عشر ظهرت سيطرة كبّانيات صيد الرقيق في إقليم بحر الغزال ا لتي يديرها اجانب أو سودانيون ، وبذا تم قطع إمدادات الرقيق نهائيا من سلطنة (الكيرا) وهي الموارد التي طالما أنعشت سلطنتهم!!. هنا إذن بدأ الضيق التدريجي للإطار الإقتصادي الإجتماعي الذي كان سبباً في إزدهار دارفور طيلة حكم (الكيرا) .

 

وكما يؤكد أوفاهي فلقد كانت دورة صيد الرقيق وتجارة المسافات الطويلة هي قاعدة الرفاهية في دارفور، فبإخفاق إحد حدّي هذه القاعدة (صيد الرقيق) فتوقف تدفق الثروة بإعطاب تجارة المسافات الطويلة (كوبي أسيوط) وإلى الأبد. ولسنا في حوجة لدليل أكثر من وصف ناختقال للمدينة (كوبي) التي زارها في ١٨٧٤م ليجد أن أكثر من نصف منازلها غير مأهولة، ولكنه وبعد ٦ سنوات من تلك الزيارة وجد أنه فقط ما بين ٨٠-١٠٠ منزل مأهولة ضمن ٥٠٠ منزل بالمدينة!!!.

 

إذن وكما ذكرنا أعلاه ، فإن ضيق الإطار الاقتصادي والإجتماعي في سلطنة (الكيرا) بسبب التطورات الناتجة عن تدخل محمد على باشا في السودان قد أدّت لضيق الإطار السياسي داخلها وذلك بسبب إحباط مفهوم (الحاكورة مقابل الولاء). فلقد كانت الحاكورة هي قاعدة بنية العقل البرجوازي المحلي بدارفور.

 

وكذلك هي آلية ومنطق التبادلية بين البلاط ونخبته السياسية. إذن أولاً تأثّر النظام العقاري في السلطنة الذي كان يعتمد بشكل أساسي على وارد الرقيق كجزء من الدورة الإقتصادية بخلقه التدفق النقدي الضروري لمقابلة الإحتياجات البذخية والضرورية للبلاط والنخبة السياسية معاً وكذلك بتخفيفه الضغط على موارد الحاكورة. ذلك من يد.

 

ولكن ثمة أمر غاية في الخطورة أبرزه الرحالة ناختقال فلقد لاحظ في السنوات الأخيرة للسلطان محمد الحسين على لسان راويته المحلي (أحمد كتنقاتنقا) أن التساهل في نزع الحواكير من أصحابها بضغط من الأسرة السلطانية على السلطان الضعيف (محمد الحسين) هو ما أضعف النخبة غير الملكية (صراع الباسينقا/التالينقا) وهذه الأخيرة هي التي كانت تقوم بالواجبات السلطانية مثل الإلتزام بدفع الجبايات اللازمة وبذا صار العائد للدولة ضعيفا جدا حسب وصف ناختقال. وليس ذلك فحسب بل أجهدت المجموعات السلطانية التي إستولت على هذه الحواكير وعلى رأسها أيّا باسي زمزم وأيا باسي عرفة (زوجة محمد خالد زقل) أقول أجهدت الأٌجراء والأتباع بالحواكير باللامبالاة السلطانية والإتاوات الباهظة فتم هجر الحواكير وهو ما أنعكس على الوضع السكاني الذي يمكن تجييشه ضد الخطر القادم من الجنوب مع إنفكاك النخبة غير السلطانية من أي إلتزام بالتبادلية تجاه السلطان وبذا إنهارت القاعدة التي كانت تقف عليها بنية العقل البرجوازي ومنطقه بسلطنة (الكيرا) وإلى الأبد. وهكذا تضافر مع ذلك تشدد السلطات المصرية في إنفاذ الأمر التنفيذي الذي أصدره محمد علي باشا لحاكم أسيوط منذ العام ١٨٣٥م بالتشدد في عدم توريد السلاح الناري لدارفور ،

 

فلقد أورد (نادي) باشا جاسوس الخديوي لدارفور في مبتدأ سبعينيات القرن التاسع عشر في تقريره أنه ضمن ٢ الف جندي من الذين يدربهم المقدوم عبد الرازق كان هناك فقط خمسمائة يحملون بنادق قديمة الطراز!!. إذن لم يعد من مصير أحسن من الذي لقيه السلطان إبراهيم قرض في ١٨٧٤ بمنواشي ، فحسب

 

نعوم شقير تقدمت جحافل البازنقر (جيش الزبير باشا) البالغ عددهم ٧ ألف من حملة البنادق فدمرت أولاً جيش الوزير أحمد شطة ب(دارا) حيث لم يعد مع السلطان (قرض) بعد ذلك بمنواشي سوى مجموعة الكوركوا وطلبة مدرسة البلاط (سوم دوقللا) وبعض الفرسان على صهوات جيادهم لتجتاحهم عاصفة جيش البازنقر بقيادة الزبير باشا بلا هوادة.. نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى