مقالات الظهيرة

صهيب حامد يكتب… آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢٣-٣٠)

حسناً..وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فلقد تقلصت مساحة التوافق داخل إطار الكيان المهدوي الناشئ بعد إنتقال (المهدي) للرفيق الأعلى في ٢٢ يونيو ١٨٨٥م. كان بمكنة المهدي إستيعاب بنية الوعي التناسلي (البقارة) لطبيعة إطارهم الثقافي الإجتماعي ذي البصمة (الغيبية) التي تفترض أن الخلاص خارجي المصدر (جغرافياً أو كونياً)!!.

ولكن لم يكن بمكنة الخليفة عبد الله إستيعاب الإطار الإجتماعي الحليف (الأشراف) بعد غياب المهدي ، فكما ذكرنا أن فكرة الخلاص لدى هؤلاء الأخيرين هي داخلية المصدر لطبيعة بنية الوعي البرجوازي الذي يؤمن بمادية موضوعة الخلاص وذاتيتها ولتميُّزها ببرنامج للعطاء مغلق لأن وعيها وعي (قصور) وليس وعي (فاعلية). إذن كان لا بد أن ينفجر الصراع بعد وفاة المهدي وأن تتقلص مساحات التوافق داخل الكيان المهدوي لأدنى درجاته!!. ثمة أُغلوطة تستشري داخل أطروحة (المركز العروبي) وهي أن مصدر إنبعاث الفكرة المهدوية وتوظيفها دينياً وسياسياً لا يعود لمحمد أحمد (المهدي) نفسه ولكن للرجل الثاني إستشهاداً برواية (شقير) على لسان الزبير باشا وهي جميعها إستيهامات لا تقوى على الوقوف على ساقين أمام الوقائع التي تؤكد المهارة القصوى (للمهدي) في ممارسة التلاعب الإستراتيجي بمعناه السياسي الحديث (Universal Manipulation) خصوصاً وأن مجموعات الأتباع الذين توفروا كي يقودهم المهدي كانوا مجموعات الهشاشة العاطفية ( Emotional dependency) من البقَّارة!!.

ليس من دليل على أن محمد أحمد (المهدي) لم يكن درويشاً كما تود هذه الأطروحة أن توهمنا ، أقول ليس من دليل أكبر من أن كل عمَّال الجهات (ولاة الولايات بمفهوم حديث) حين وفاة المهدي كانوا من أقاربه!!. فقد كان محمد خالد زقل (قريب المهدي) عاملاً على دارفور ، محمود عبد القادر (خال المهدي) عاملاً على كردفان ، محمد عبد الكريم (إبن عم المهدي) عاملاً على جزيرة سنار ، محمد الخير عبد الله خوجلي عاملاً على بربر ودنقلا.

كرم الله كركساوي (دنقلاوي) عاملاً على بحر الغزال ، شقيقه محمد كركساوي عاملاً على (شكا) ، وسليمان كركساوي على (دارا) ، وإلى جانب أحمد سليمان (محسي) أميناً على بيت المال. إذن هذه هي تركيبة السلطة التي أورثها المهدي لخليفته وهي بالمفهوم الحديث ممارسة السلطة عبر (أوليغاركية) سياسية مع إستخدام الخليفة عبد الله كترميز تضليلي إحتوائي لقبائل (البقارة) وهي إستراتيجية تليق ببنية عقل برجوازي رَاكَمْ خبرة أكثر من أربعين عام منذ قدوم محمد خير الأورباوي ومعه مجموعات أقاربه من الدناقلة المستعربين كأكبر وكيل لتجارة الرقيق في المدينة الإستعمارية الجديدة (الخرطوم) لصالح المركز البرجوازي للدولة التركية في السودان.

 

لم يكن عسيراً على الخليفة أن يضمن إنتقالاً سلساً للسلطة بالآلية المؤسسية (للمهدية) وهو ما حدث فعلاً بعد وفاة المهدي مباشرة. ولكن لم يأمن (الخليفة) شر الأشراف الذين في البدء إنفجرت ثورتهم ضده بقيادة الخليفة شريف وبعض أفراد أسرة المهدي ، فحاولوا بجرأة إغتياله وهو ما أرعب الخليفة فأمر بترحيلهم قرب (الهجرة) وقد كان المكان هو الحد الشمالي لأم درمان (منازل آل المهدي الحالية بود نوباوي). وكذلك توفرت المعلومات نيتهم القيام بإنقلاب توفرت كامل عناصره بيدهم عبر جيوش عمّالهم في (الجهات) خارج أُم درمان. هنا لم يكن من بد أمام الخليفة سوى إستنفار (أُوليغاركيته الجديدة) وهي مجموعة من (التعايشة) إعتمد عليها الخليفة إلى غروب شمس دولته. عموما إستطاع (الخليفة) الشهير في حبك التكتيكات والمكر والدهاء أولا التخلص من (زقل) بمحاصرته وجيشه القادم من دارفور ببارا إلى إستسلامه ثم سجنه بالأبيض لعام قبل قدومه أمام (الخليفة) الذي إستعمله على دنقلا لهنيهة كي يرسله للرجّاف فيما بعد معتقلاً إلى إطلاق سراحه بعد (كرري). أما محمود عبد القادر في كردفان فقد أعفى القدر (الخليفة) من دمه حيث مات على يد الجهادية المتمردين الذين هربوا من الأبيض فلاحقهم الي جبال النوبة وقد إنقلبوا عليه فمات مقتولا على أياديهم. بعدها إستدعى (الخليفة) محمد عبد الكريم من سنار عاقدا له مجلساً للمحاسبة إنتهى بعزله وسجنه على خلفية شكاوى أقارب الخليفة بسنار من طريقة تعامله معهم. عزل الخليفة محمد الخير عبد الله خوجلي (معلم المهدي) على خلفية مسؤوليته من موت الأنصار على يد الجيش المصري بعكاشة وفركة في الشمال. بقي كرم الله كركساوي وأخيه محمد بدارفور اللذين أبقتهما ضرورات الصراع بين المهدية ومكونات (الكيرا) التي قاومت المهدية إلى الرمق الأخير ، إلي جانب أن هؤلاء الأخيرين من مواقعهما الخلفية كانوا دوما ًتحت سمع وبصر عثمان آدم (جانو) ومحمود ود أحمد دوماً على التوالي. إذن إستعمل المهدي بعد ذلك كل من عثمان آدم وبعده محمود ود أحمد على دارفور وعثمان آدم ثم الختيم موسى على كردفان وعثمان ود الدكيم على دنقلا وبربر ويونس ود الدكيم على جزيرة سنار وخلع أحمد سليمان مستبدلاً إياه بالنور الجريفاوي على (بيت المال). وحده عثمان دقنة ظل غير متأثرٍ بهذا الصراع وفي منجى منه عاملاً على الشرق إلى سقوط المهدية في كرري ١٨٩٨م. إذن لم يكن من مناص سوى أن يختار (الخليفة) صفاً خالصاً من أقاربه من (التعايشة) لإدارة (الجهات) بلا إستثناء حيث كان جميع العمّال المذكورين آنفاً كذلك!!!.

 

إذن هكذا إنفجر صراع البنى داخل المهدية كحقل كليّة بعد وفاة محمد أحمد (المهدي)!!. لقد راكمت المهدية بنيتي عقل إحداهما سطحية ظاهرة (بنية عقل تناسلي) مثّلها البقارة والأخرى عميقة (بنية عقل برجوازي) مثّلها المهدي والأشراف. ولقد تآزرت هاتان البنيتان إلى إنتصار (المهدية) ، إذ إستطاعت بنية العقل البرجوازي التي مثّلها الأشراف أن توظّف بنية العقل التناسلي (البقارة) وفقاً لمهامها وأغراضها. ولكن بعد وفاة المهدي فشلت بنية العقل التي مثّلها الأشراف أن تمتص وتعالج عديد التحديات والإضطرابات وبله القدرة على إستقرار وتوازن البناء الإجتماعي ، مما إستوجب تشكيل بنية بديلة كانت موجودة بالأساس (كبنية إحتياط إستراتيجي) كما يسميها صاحب التحليل الفاعلي أ. الشيخ محمد الشيخ. وهكذا سادت إذن بنية عقل تناسلي صرف فاقمها مفاعيل الصراع بين الأشراف والخليفة عبد الله جعلت (الخليفة) يوغل في (المزايدة المحاكاتية) في تبني نسخة (غنوصية) للإسلام مصدرها الأساسي للتشريع هي حضرات النبي (ص) والمنامات التي يظهر فيها (المهدي) لمنح الخليفة التوجيهات التي تضفي عليه مشروعية حاول الأشراف نزعها منه. كذلك واصل (الخليفة) مزايداً في منهج (المهدي) بأبطال العمل بالفقه والمذاهب وإعتماد الكتاب والسنة لوحدهما مصدرين مباشرين للشريعة ، كما منع الحج وشرّع بدلاً عنه زيارة (قبة المهدي) إمعاناً في المزايدة على الأشراف. وهكذا كلما زاد أوار الصراع الداخلي كلما زاد أوار المزايدة المحاكاتية من جانب الخليفة وهو ما جعل الدولة المهدية تعيش في برج عاجي إنعزالي عن تطورات الواقع الدولي الذي سوف يوردها بعد قليل موارد الهلاك..نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى