حرب السودان: نقطة تحوّل الحاضر، والتخلّص من الماضي، والتخطيط للمستقبل
⭕ شبكة مسارب الضي الإخبارية
تقرير: د. محمد تبيدي
🛑 حرب السودان: نقطة تحوّل الحاضر، والتخلّص من الماضي، والتخطيط للمستقبل
يمثل تاريخ السودان سجلًا حافلًا بالتجارب السياسية والاجتماعية التي صنعت واقعه الحاضر، وتربط بين ماضٍ مليء بالتحديات، وحاضرٍ متقلب، ومستقبلٍ واعد بأمل التجديد. وهنا نستعرض الحقب السياسية الرئيسية التي مرّ بها السودان، بدءًا من الحكم التركي، مرورًا بفترات الاستعمار البريطاني، ووصولًا إلى مراحل الثورة والتحولات الجذرية التي صاحبتها تحديات داخلية وخارجية. نسلّط الضوء على المحطات التاريخية التالية:
▪️ الحكم التركي – جذور النفوذ الخارجي:
شهدت الأراضي السودانية خلال الحقبة العثمانية بداية ظهور أنماط حكم تميزت بتأثير القوى الخارجية على سياسات الدولة المحلية. وقد كان لهذا النظام التركي تأثير في إدارة شؤون البلاد، حيث دخل النفوذ التركي استجابةً لرجال أقوياء شجعان لا يعرفون الخوف، وأيضًا بسبب ثروات السودان الطبيعية وخصوبة تربته الزراعية، ومراعيه الطبيعية، وثرواته الحيوانية. هذا، في المقام الأول، كان يحمي مصالح الإمبراطورية العثمانية، مما أسس لبصمات نظم حكم كان من الصعب التخلص منها في مراحل لاحقة.
▪️ الاستعمار البريطاني – فصلٌ جديد في التاريخ:
غيّر الاستعمار البريطاني معالم السودان بشكل جذري، إذ فرض نظام إدارة استعماري اعتمد على إعادة هيكلة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. اعتمدت السلطات البريطانية على استغلال الموارد الطبيعية وتجزئة النسيج الاجتماعي والثقافي، مما ساهم في رسم خطوط الانقسام التي لا تزال تؤثر في واقع البلاد بعد سنوات من استقلالها.
▪️ الاستقلال ودولة 1956 – ميلاد الوطن والتحديات الأولية:
مع إعلان استقلال السودان عام 1956، وُلدت دولة السودان التي حملت آمال الشعب في الحرية والسيادة. إلا أن التحديات التي صاحبت هذا الانتقال إلى الحكم الذاتي، من غياب الخبرات الإدارية والسياسية وتوارث آثار الحقبة الاستعمارية، أحدثت صراعات داخلية ومحاولات لإرساء نظام سياسي يستوعب طموحات الجميع.
▪️ الحكومات العسكرية والحكومات المدنية – تقلبات بين النظام والعَلم:
مرت مراحل ما بعد الاستقلال بفترات متناوبة من الحكومات العسكرية والحكومات المدنية. شكلت الأنظمة العسكرية فترة من التحكم الصارم والقرارات الاستبدادية، بينما سعت الحكومات المدنية لإرساء دساتير جديدة ونظم ديمقراطية رغم العقبات التي فرضتها الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. تبقى هذه التجارب درسًا في التوازن بين قوة الدولة والمشاركة الشعبية في صنع القرار.
▪️ فترة الديمقراطية الأولى – آمال التجديد وبدايات الانفتاح:
ظهرت في فترة الديمقراطية الأولى محاولات جادة لبناء نظام ديمقراطي قائم على أسس الشفافية والتعددية السياسية، إلا أن ضعف المؤسسات وتحديات الإرث الاستعماري أدت إلى صعوبات في تحقيق الاستقرار المؤسسي والسياسي الذي ينشده الشعب السوداني.
▪️ فترة الديمقراطية الثانية – التجربة النيوليبرالية في ظل الضغوط الداخلية:
جاءت الديمقراطية الثانية بمزيج من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بعد انتفاض الشعب على حكومة جعفر نميري، لكن تباين الآراء وتصاعد الصراعات السياسية بين الفصائل المختلفة حال دون الوصول إلى نظام ديمقراطي شامل ومستدام. ظلّ الشعب في هذه الفترة يتطلع إلى نموذج سياسي قادر على تذليل مفترقات الماضي، ففجّر ثورة الإنقاذ الوطني (حكومة الحركة الإسلامية).
▪️ ثورة الإنقاذ الوطني – النظام الإسلامي الجديد ومنعطف سياسي جديد:
في خطوة جذرية، أطلقت ثورة الإنقاذ الوطني التي حملت الشعوب الأمل في إنهاء مرحلة الانقسامات والأزمات، إلا أنها أدت إلى بزوغ فجر نظام إسلامي جديد حاول استقطاب الشرائح المختلفة، معتمدًا على هوية دينية وسياسية موحدة. ومع ذلك، لم تخلُ هذه المرحلة من التوترات الداخلية التي أثّرت على الحكم واستقرار الدولة. وظل الإسلاميون في صراع مع الحركات المسلحة وحرب الجنوب التي خلصت في النهاية إلى انفصال الجنوب والحصار الدولي المفروض، وظلّت هذه الفترة ثلاثين عامًا بين التنمية والإعمار والصراع الخارجي والداخلي، إلى أن جاءت ثورة الشباب التي أطاحت بها.
▪️ ثورة الشباب والإطاحة بحكومة الإنقاذ – صوت التغيير وإرادة الشباب:
ظهر جيل جديد من الشباب مطالبًا بتغيير حقيقي، حيث قاد هذا الحراك الشعب نحو الإطاحة بحكومة الإنقاذ والحركات الإسلامية التي اعتُبرت مناراتٍ للنظام القديم. أظهرت هذه الثورة مدى قوة الإرادة الشعبية وقابلية التغيير في مواجهة أنظمة لم تتمكن من تلبية تطلعات المواطنين نحو الحرية والديمقراطية.
▪️ مرحلة المجلس السيادي الانتقالي – الانتقال السياسي والبحث عن استقرار جديد:
كان من بين أبرز المحطات السياسية تشكيل المجلس السيادي الانتقالي الذي سعى لتجسير الهوّة بين الماضي والحاضر. شمل هذا المجلس شخصيات من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية، وكانت مهمته وضع أسس الانتقال السياسي نحو دولة مدنية تقوم على حكم القانون والمشاركة الفعالة للمجتمع.
▪️ حكومة عبدالله حمدوك – آمال الإصلاح والتوازن الوطني:
شكّلت حكومة عبدالله حمدوك منصة لتجديد الثقة وتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة. ورغم الجهود المبذولة، واجهت الحكومة تحديات جسيمة من جماعات المعارضة والتحولات الداخلية، ما أدى إلى انعدام الاستقرار المطلوب لتنفيذ مشاريع التنمية الوطنية.
▪️ تصحيح مسار الثورة بوساطة المجلس العسكري – تدخل جديد في مسرح السياسة:
لم تخلُ فترة التحولات من تدخل عسكري أدى إلى تصحيح مسار الثورة، حيث تدخل المجلس العسكري بما يعكس صراعًا على السلطة ونزاعًا حول رؤية المستقبل السياسي للسودان. هذا التدخل عبّر عن صراع عميق بين التيارات المدنية والعسكرية، وأعاد تشكيل ملامح السلطة في البلاد.
▪️ تمرد مليشيا آل دقلو الإرهابية – تجربة فاسدة تستنهض التحديات الأمنية:
ظهر تمرد مليشيا آل دقلو الإرهابية في سياق من الصراعات الداخلية المُعقدة، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الأمنية في السودان. تُعد هذه التحركات انعكاسًا للتوترات السياسية والأيديولوجية، وتشير إلى ضرورة إعادة النظر في هيكل القوى الفاعلة داخل البلاد.
▪️ دعم الإمارات للمليشيا (الدعم السريع) – تحقيق مشروع الاستيلاء على السلطة:
برزت علاقة الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع كعامل رئيسي في مسرح الصراعات، إذ ساهمت في تعزيز قدرات هذه القوات لتحقيق مشروع الاستيلاء على السلطة. يطرح هذا التحول تساؤلات حول المحاور الجيوسياسية وتأثيراتها على مسار الحكم السياسي في السودان، مع بروز تحالفات خارجية تلعب دورًا في تحديد مستقبل الدولة.
▪️ الوضع الحاضر – ميدان التحديات والآمال المتجددة:
يقف السودان اليوم على مفترق طرق، حيث تُشكل التحديات الأمنية والاقتصادية والنزاعات الداخلية معضلات حقيقية أمام عملية بناء دولة مستقرة. ورغم ذلك، يسود داخل المجتمع السوداني روح التطلع لبداية فصل جديد ينبثق من إرادة الشعب للتخلص من قيود الماضي واستحداث نظام ينمّي الانتماء الوطني والعدالة الاجتماعية.
▪️ التخطيط الاستراتيجي لمستقبل سودان جديد – رؤية شاملة للتغيير:
في ظل تلك التحديات، يتطلب الطريق إلى مستقبل مستدام وضع رؤية استراتيجية شاملة تقوم على عدة محاور:
التطهير السياسي والمؤسساتي: إزالة الرواسب التي ورثها النظام القديم وتعزيز سيادة القانون.
إعادة بناء الثقة الوطنية: إشراك كافة مكونات المجتمع في عملية صنع القرار بشكل حقيقي وشفاف.
التنمية الاقتصادية والاجتماعية: توجيه الموارد نحو مشاريع تنموية تضمن توفير فرص عمل وتحسين جودة الحياة.
الدبلوماسية الجهوية والدولية: إقامة توازن بين السياسات الداخلية والمصالح الجيوسياسية لضمان دعم دولي متوازن للمشروع الوطني.
تمثل هذه الرؤية طريقًا واقعيًا نحو تحول حقيقي يرتكز على العدالة والتنمية المستدامة. إن مراجعة الحقب السياسية المختلفة تبرز مدى عمق التجارب التي مرّت بها البلاد، وتوضح أن بناء سودان جديد يستلزم إرادة شعبية حقيقية وقدرة على تجاوز الانقسامات. بالنظر إلى التجارب السابقة، يظل الأمل معقودًا على تحقيق تغيير حقيقي يعتمد على العدالة الاجتماعية، والشفافية، والمشاركة الفاعلة لكل شرائح المجتمع، مما يمهّد الطريق لمستقبل مزدهر ومستقل.
وانا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة