مقالات الظهيرة

السيولة السياسية في السودان : أزمة فكر أم غياب مشروع ؟

الظهيرة – عبد الله حسن محمد سعيد :

مقدمة :

مرّ السودان بتطورات متسارعة عقب ثورة ديسمبر 2018 ، التي أطاحت بالنظام القديم ، وتبعها انتقال سياسي واجتماعي حافل بالتحديات . ورغم الجهود العديدة لتأسيس دولة ديمقراطية مدنية ، إلا أن الواقع السياسي في السودان اليوم يعكس حالة من السيولة السياسية التي يعجز كثيرون عن فهم أسبابها العميقة .

هل هي أزمة فكرية يعاني منها الفاعلون السياسيون ؟ أم أن المشكلة تكمن في غياب المشروع الوطني الجامع الذي يعيد توجيه دفة البلاد نحو الاستقرار والتنمية ؟

نستعرض في هذا المقال الأزمة السودانية الراهنة ، معتبرا أن التشخيص الصحيح للوضع الراهن يتطلب فحص الجذور الفكرية والتنظيمية للحركات السياسية السودانية ، وتقديم إطار تحليلي للمراحل التي مرّ بها التغيير ، مع التركيز على الأبعاد الفكرية والسياسية التي ساهمت في فشل التحولات الديمقراطية ، مما أدى إلى استمرار الجمود السياسي و الانفجارات الاجتماعية . في هذا السياق ، نسعى إلى بناء رؤية استراتيجية شاملة للنهوض بالمشهد السوداني ، تقوم على الوعي الفكري و المشروع الوطني .

1. أزمة الفكر السياسي السوداني :

أ . من الإرث الاستعماري إلى الجمود الأيديولوجي :

تاريخ السودان السياسي لا يمكن فصله عن تأثيرات الاستعمار البريطاني المصري ، الذي ترك بصماته على بنية الدولة السودانية الحديثة . فقد أسس لتقليد في الحكم قائم على التمكين السياسي من خلال السياسات المركزية ،

وهو ما أعاق تطور الأحزاب السياسية السودانية بعد الاستقلال . وتعمق هذا الجمود مع تطور الحركات الأيديولوجية ، من الإسلام السياسي إلى الاشتراكية و الليبرالية ، التي نمت على حساب بناء المؤسسات السياسية الوطنية المستقلة عن الطروحات الأيديولوجية المتباينة .

ب . الأيديولوجيا والانتقال الديمقراطي :

لم تستطع القوى السياسية السودانية أن تتوصل إلى إجماع فكري حول شكل الدولة ، والاتفاق علي كيف نحكم ، فظل “التمزق الأيديولوجي” يعرقل أي تقدم نحو مشروع سياسي شامل . الأحزاب السودانية ، وخاصة تلك التي نشأت بعد الاستقلال ، إما تبنت أيديولوجيات غير قابلة للتطبيق في الواقع السوداني ، أو فشلت في تحديث نفسها لتواكب التغيرات الاجتماعية والسياسية .

 

ج . التأثير السلبي للفكر الضيق :

الفكر السياسي السوداني – الذي تقوده غالبًا النخب القديمة – لا يزال يعاني من الركود الفكري . هذا الجمود الفكري يقود إلى إعادة إنتاج نفس الأخطاء ، والوقوع في نفس الشرك الذي أدى إلى فشل التجارب السابقة .

2. غياب المشروع الوطني الجامع :

أ. أزمة التوافق حول رؤية الدولة :

من أبرز أوجه الأزمة في السودان اليوم هو غياب المشروع الوطني الجامع . فقد غلبت الرؤى المتناقضة للأحزاب السياسية حول شكل الدولة ، سواء كان علمانيًا أو إسلاميًا أو ليبراليًا . حتى المبادرات الوطنية لم تتمكن من تقديم رؤية متكاملة تتجاوز الأيديولوجيا ، وهو ما جعل الميدان السياسي مليئًا بالفراغ الفكري والبرامجي .

ب. انعدام “البرنامج الانتقالي” الفعّال :

تعاملت قوى الحرية والتغيير مع المرحلة الانتقالية دون أن تقدم برنامجًا حقيقيًا لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية . فتارة تُطرح الوعود الشعبية بالعدالة والحرية ، وتارة أخرى يُغيب الدور المنهجي في إدارة الشأن العام . هذا التناقض في برامج الأحزاب دفع إلى تشظي القرارات السياسية ، وخلّف أزمات مستمرة في المجالات الاقتصادية والأمنية .

ج. تأثير القوى الخارجية :

العديد من القوى السياسية السودانية أصبحت رهينة لتأثيرات الخارج ، ما بين دعم من الدول الغربية أو تضارب مصالح القوى الإقليمية . هذا الخلل في توازن القرار الوطني كان له دور في عدم قدرة السودان على طرح مشاريع مستقلة تُخدم مصالحه الأساسية .

3. حالة السيولة السياسية بين الجمود والتحول المفاجئ :

 

أ. انقلاب عسكري… أم تغيير مجتمعي ؟

ظهرت القوى السياسية السودانية في مواقف متناقضة ؛ ففي الوقت الذي حاولت فيه بعض القوى التكيف مع الواقع الجديد بعد الثورة ، كان البعض الآخر يميل إلى التحالف مع العسكر سعياً للحفاظ على مكاسب ضيقة . هذا الصراع خلق حالة من “الجمود” داخل المؤسسات السياسية ، مما أثر على التحولات المتوقعة من الثورة .

ب. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كأرضية لتصاعد الأزمة السياسية :

تفاقم الأزمة الاقتصادية في السودان ، متمثلة في ندرة الموارد ، و ارتفاع معدلات الفقر ، و تدهور القطاع الصحي والتعليم ، أدت إلى احتجاجات شعبية مستمرة . في ظل هذا الوضع ، كانت القوى السياسية غير قادرة على تقديم حلول عملية ولا على إيجاد أرضية مشتركة للتنمية المستدامة .

4. الحلول المقترحة نحو استعادة المشروع الوطني :

أ. إعادة بناء الفكر السياسي السوداني : الضرورة القصوى هي تأسيس نظام فكري جديد ، يستند إلى الوعي الوطني الذي يعكس التنوع السوداني ، ويبتعد عن الأيديولوجيا التي تقيد التفكير . هذه الرؤية يجب أن تركز على الديمقراطية ، المواطنة المتساوية ، و المشاركة الشعبية .

ب. بناء أحزاب سياسية مؤسسية :

الأحزاب السياسية في السودان بحاجة إلى التحول من تنظيمات موسمية إلى مؤسسات حقيقية ، تعمل على تربية الوعي السياسي وتنمية كوادرها بعيدًا عن الهيمنة الزعاماتية .

ج. برنامج انتقالي جامع :

لا يمكن للمرحلة الانتقالية أن تنجح بدون برنامج متكامل يشمل إعادة بناء المؤسسات السياسية ، والتعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية بشكل استراتيجي بعيد عن التنازلات المؤقتة . والاتفاق علي كيف نحكم وليس من يحكم . يجب أن يتم تشكيل حكومة ذات مصداقية ، تركز على الإصلاح المؤسسي ، والعدالة الانتقالية .

د. تعزيز السيادة الوطنية :

القرار الوطني يجب أن يُستعاد بالكامل من القوى الخارجية . على القوى السياسية أن تتفق على إعادة بناء السودان وفق مصالحه الداخلية ، بعيدًا عن الضغوط الخارجية . هذا يتم من خلال التفاوض الوطني الذي يعكس أولويات الشعب السوداني .

الخاتمة:

من الواضح أن السودان في مفترق طرق . فإما أن تستعيد القوى الوطنية زمام المبادرة وتؤسس لمشروع وطني متكامل ، أو يستمر في الغرق في السيولة السياسية التي تغذيها التناقضات الفكرية والغياب التام للمشروع الوطني .

إن الطريق نحو الحل ليس مستحيلًا ، ولكن يتطلب إرادة وطنية و شجاعة فكرية لمواجهة تحديات الواقع ، و خروجًا عن المألوف من خلال تأسيس رؤية وطنية جامعة ، تتحقق من خلال العدالة الاجتماعية ، المواطنة المتساوية ، و التغيير المؤسساتي العميق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى